بحكم اتساع مساحة المملكة العربية السعودية، فإنها تضم بين جنباتها مناطق متنوعة في طبيعتها الجغرافية وفي مناخها، فيها المساحات الشاسعة ما بين الصحراء والسهول والجبال والهضاب والوديان والسواحل البحرية في شرقها وغربها، علاوة على ما تثرى به طبيعتها بعدد غير محدود من الواحات الزراعية التي شكلت مراكز استقطاب للاستيطان البشري منذ القدم، بحكم وفرة المياه الجوفية، فكانت الآبار والعيون المتدفقة مواطن جاذبة للاستقرار البشري والزراعة، وتلك هي البداية الفعلية للتحول المجتمعي من حياة الترحال والتنقل ما بين الفيافي والصحراوات، إلى الحياة المستقرة الآمنة المنظمة، والتي بها تمكنت الدولة من احتواء المواطنين في مراكز سكنية بدأت بالهِجرْ والقرى، حتى أصبح الكثير منها مدنا تتباين في أحجامها وعدد سكانها ومواقعها، فكانت تلك المرحلة الأولى من عهد الاستقرار والتنمية الوطنية والأمن، وبذلك تمكنت الدولة من نشر التعليم وتوفير الخدمات الصحية والبلدية وغيرها، والتي تطورت مع السنوات لتسجل إنجازاً تنموياً يشهد به القاصي قبل الداني.

في إطار ذلك الواقع الجغرافي الثري بطبيعته، يوجد الكثير من المناطق الزراعية التي اُستثمرت، وأخرى لا تزال تنتظر استثمار مواردها وتربتها الخصبة بزراعة منظمة واسعة؛ يمكن بها تحقيق جزء كبير من أمننا الغذائي المطلوب، بعد أن أثبتت التجارب والمحن في ظروف مختلفة أن تحقيق أكبر قدر من الأمن الغذائي هو من أولويات المسؤوليات الوطنية، باعتباره من أساسيات الحياة ومن المتطلبات الإنسانية الملحة لكونها تشمل حاجة جميع الشرائح من السكان.

وعلى الرغم من أننا بلد صحراوي في موقعه الطبيعي، ويُعد من الدول الجافة مناخياً، والتي تفتقر إلى الموارد المائية الوفيرة المستمرة وتندر فيها الأمطار، إلا أننا -وحتى الآن وكما تشير التقارير المنشورة- نعاني من ضآلة الرقعة الزراعية المستغلة في الوطن والتي لا تتعدى 3.22% من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وبما لا يساهم إلا بنحو 2.6% من إجمالي الناتج المحلي، وذلك على الرغم من أن برنامج التحول الوطني 2018-2020، تضمن في خطته التنفيذية؛ لمستهدفات الرؤية، «ضمان استدامة الموارد الحيوية»؛ بالحرص على تطوير حماية البيئة من الأخطار الطبيعية؛ خلال تنمية الغطاء النباتي للحد من التصحر والزحف الرملي؛ وبتنمية موارد المملكة الحيوية وضمان الاستفادة المستدامة منها، عبر التركيز على تنمية الموارد المائية وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفر الأيدي العاملة، وتعزيز القدرات الوطنية لإدارة الأزمات بفاعلية.

كما تضمن البرنامج في إستراتيجيته؛ تعزيز الممارسات الجيدة لسلامة المنتجات الزراعية واستدامة استهلاكها عبر البرامج التوعوية والأنظمة، وتعزيز استقرار إمدادات الغذاء عبر آليات وأطر للشركات، وتفعيل التعاون والمشاركة في المنظمات والاتفاقيات الدولية؛ وتطوير منظومة إنتاج غذائي مستدامة من خلال رفع الاكتفاء للسلع الملائمة محلياً، وتحسين الإنتاجية المستدامة.

وإذ نشهد في وطننا الغالي في هذه الفترة الكثير من منتجاتنا من الفواكه والخضروات المتنوعة، والتي تنافس المنتجات المستوردة في جودتها وفي صلاحيتها للاستخدام البشري، بل وفي حداثة نضجها وتوزيعها من المزارع إلى الأسواق مباشرة، وذلك في حد ذاته يعد إنجازاً وطنياً نفتخر به ونعتز بمنتجاته، ونُقدر جميع من يولي مهنة الزراعة والاستثمار فيها تلك الأهمية، سواء كمصدر رزق واستثمار للأرض الزراعية، أو كرافد يُسهم في النمو الاقتصادي بمنتوجات محلية، يمكن بها دعم موازنة الدخل اقتصادياً وتنموياً، خاصةً لو أُحسن توجيهها ودعمها؛ بتنظيم استثمارها وتوزيعها في السوق المحلية بداية والخليجية تالياً.

تحتاج التنمية الزراعية المثمرة المستدامة؛ إلى جهود مؤسسية ومجتمعية متكاملة، يعمل جميعها كمنظومة مساندة وموجهة لعملية الإنتاج الزراعي، سواء كجهات رسمية مُنظِّمة لعملية توزيعه وتسويقه بما يحفظ حقوق المزارعين، ويدفعهم نحو التوسع في استثماراتهم الزراعية المناسبة لجميع مواردنا الطبيعية المتاحة، أو كجهات مسؤولة حاكمة وضابطة لمستوى الأسعار ومناسبتها للمستهلك والمستثمر معاً، أو كنقاط ومراكز تسويقية محددة، يمكنها احتواء عدد كبير من العمالة الوطنية، كفرص وظيفية متاحة ومنتجة، في ظل احتكار غير المواطنين لها بأساليب مختلفة.

هناك العديد من الشركات الكبرى الزراعية الوطنية المعروفة التي تضخ كميات لا بأس بها من المزروعات المتنوعة، وذلك أمر محمود ومتميز لمجالات الاستثمار في مواردنا، ولكن لدينا مئات المزارعين الذين لديهم مزارع كبيرة وصغيرة ومتوسطة، تنتج كميات كبيرة من المحاصيل، ولا تجد جهة مؤسسية تحتويها في جميع مراحل الإنتاج والتوزيع والتسويق، وبالتالي قد تفسد منتجاتهم قبل وصولها للسوق، وقد يضطرون لبيعها للموزعين المتنفذين بمبالغ زهيدة مقابل التخلص منها قبل أن تتلف، وبالتالي سيكون مردودها الاقتصادي مكلفا وغير مجد أو غير محفز للاستمرار فيه أو التوسع في مجاله، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة صيفاً، وعدم وجود وسائل نقل سريعة كالقطارات بين المزارع ومراكز التسويق في المناطق.

الاستثمار في الزراعة يُعد مرتكزاً تنموياً رئيساً لتحقيق أمننا الغذائي، وينعكس مردوده على تنمية بشرية ومناطقية، تشمل جميع أرجاء المملكة ومراكزها السكنية، سواء كأصحاب مزارع أم كمسوقين وموزعين، أم كنقاط بيع، ولكن تحتاج إلى دعم مؤسسي بين الجهات المعنية كوزارة البيئة والتجارة والموارد البشرية وهيئة الغذاء والدواء، وبين المزارعين أنفسهم سواء أكانوا أفرادا أم جماعات على مستوى شركات كبيرة وصغيرة، كما يحتاج لتنشيط مفهوم مؤسسات المجتمع المدني وتحريكها نحو بناء مؤسسات مجتمعية وطنية هادفة ومتخصصة، تخدم أهدافنا التنموية وتسهم في خدمة المجتمع بشرائحه المختلفة.