في سيناريوهات تبادل الأدوار، تبدو كل من الشهادة الجامعية والمهارة ضدّين متنافسين وتمثلان في ذات الوقت منهجين متكاملين، فلا الشهادة الجامعية منسيّة لدى كثير أو أغلب المؤسسات حين يتعلق الأمر بوظيفة تتطلب تخصصاً، ولا الخبرة مرغوبٌ عنها لدى كثير من عقليات الإدارة التقليدية التي لا تزال تراوح قرنها العشرين، إن لم يكن التاسع عشر. فهل الشهادة الجامعية ضمانة للأداء الجيد، وهل الخبرة تُغني عن الشهادة الجامعية؟

من نافلة القول ألا تخصص دون شهادة جامعية، نستثني من ذلك بعضا أو قليلا من التخصصات الأدبية والإنسانية، وفي سياقات ضيّقة جداً، حين شهدنا على سبيل المثال نبوغ كتّاب وصحفيين واشتهارهم في عالمنا العربي في القرن العشرين، وفي حقبة لم تكن الشهادة الجامعية ممكنة للجميع، ومع ذلك ففي وقتنا الحالي تبدو فكرة عدم امتلاك شهادة جامعية أقرب إلى الأميّة، فالذي لم يستطع الحصول على شهادة جامعية اليوم في أحسن الأحوال ينظر إليه على أنه شخص لم يتحمل المسؤولية ليخرج إلى المجتمع متجهزاً ليكون شريكا حقيقيا في البناء.

من ناحية أخرى، فإن الخروج من ثقافة ضرورة امتلاك شهادة جامعية للقيام بالأعمال في قطاع الإدارة والأعمال على سبيل المثال هو أمر بات ملحّاً. الإدارة مهنة حساسة كغيرها من المهن، لكنها المهنة الأكثر قابليةً للانفتاح على الأفكار المتحررة من قيود المادة العلمية الجامدة، والكتب الجامعية المصممة للتلقين، وهذا يجعل الإدارة واحدة من أكثر المهن التي يمكن اكتساب معارفها من خلال دورات متخصصة، دون الحاجة للدراسة الجامعية، فهل ستقبل المؤسسات توظيف خريجي دورات متخصصة مهرة وأذكياء لا يمتلكون شهادات جامعية؟ لنرى ماذا سيحمل المستقبل!

وفي العلاقة بين الشهادة والخبرة، لعل من المهم أن نسعى إلى تعريف المفهوم الجديد للخبرة اليوم، فالخبرة قبل عصر العولمة كانت تعني أن يمكث الموظف ممارساً لعمل متكامل لفترة زمنية جيدة، لكنها اليوم قد تعني التدريب قصير أو متوسط الأمد، وهذا من المفترض أن يفتح الباب واسعاً أمام الجيل الحالي للحصول على وظائف بشكل أسهل من الجيل الذي سبقه، فهل الخبرة بمفهومها اليوم ملائمة أكثر لعصرنا ولمفاهيمه؟ الجواب هو "نعم"، لأن مفاهيم إدارة أي عمل اليوم ترتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بتعريفات الأعمال وأدواتها في وقتنا الحالي، فبينما كان الموظف قبل العولمة يتطلب تدريباً مطوّلاً على أدوات عمل كثيرة ومعقدة، بات الموظف الإداري اليوم ينفذ أعمالا أكثر بكثير وبأدوات عمل سهلة الاستخدام.

من هنا ندرك أن الشهادة الجامعية لم تعد ضرورة لأداء جيد في كل التخصصات، وتبقى تخصصات حساسة كالطب والهندسة والتدريس تتطلب دراسة جامعية، بينما ستتطور تخصصات أخرى مثل الإدارة والبرمجيات والتصميم أكثر وأكثر لتصبح تخصصات مستقلة شيئاً فشيئاً عن الجامعات، ولن يقتضي العمل فيها امتلاك شهادة جامعية، ولكن دورات تطبيقية مكثفة وخبرة تدريبية مناسبة، لينطلق المتخصص ويبدع في تخصصه في مدة زمنية أقصر من تلك التي يحتاجها الجامعي.