أكتب هذا المقال مدفوعًا بالحب، والمكتوب بدافع الحب لا يكون موضوعيا، وإنما تشيع فيه العاطفة التي قد تدفع بالكاتب إلى الحد الأبعد في الحنين والأمنيات والغبن، ولذا أعتذر عن كثرة ترديد الفعل «كان» في هذا المقال، لأن الزمن والواقع فرضاه فرضا، فلم أجد له بديلا، أو عنه حِوَلا؛ ذلك أنني أصف ماضيا لم يبق منه سوى قشرة يابسة توشك أن تتفتت، فضلا عن أنني أصبحت رجلا «كُنتيا» مركونا على رفّ مريح ومقلق في آن واحد.

كان يا ما كان، في قريب العصر والأوان، كان هناك حي يسمى المفتاحة، وهو الواقع على الضفّة الجنوبيّة لوادي أبها، وكان هذا الوادي مشهوراً بكثرة بساتينه، ووفرة مياهه، وكانت تتوسطه قلعة المفتاحة الأثرية التي بناها الأمير العسيريُّ علي بن مجثّل – رحمه الله - سنة 1242.

أزيلت أكثرُ بيوت هذا الحيّ، وأقيمت مكانها «قرية المفتاحة التشكيليّة» سنة 1410، وهي مُنشأةٌ فريدةٌ من نوعِها، بُنيت لتكون موئلا للفن والجمال والإبداع، إذ تضمّ اثني عشر مرسماً للفنّ التشكيلي، وأربع صالاتٍ للعرض، وعدداً من محلات بيع التحف والمخطوطات والأثريّات على اختلافها، ويمكن القول إن هذه القرية الفريدة ملك أهلي عام، إذ أسهم في تكاليف بنائها عدد من الموسرين ورجال الأعمال الذين نُقشت أسماؤهم على حجر خجول عند مدخلها.

كانت هذه القرية مرتبطة بجمعية البر بأبها، وكان لها مجلس إدارة يرسم خطط مناشطها، ويراجع ميزانيتها، ويعتمد برامجها، ويراقب أداء مديريها، إلا أن هذا المجلس ذاب في سنوات الذوبان، ولم يعد له دور أو ذكْر، وقد سمعت أن هذه القرية صارت حكومية بتبعيتها لوزارة الثقافة، والأمل معقود في أن تتعامل الوزارة مع هذه المنشأة بوصفها مؤسسة ثقافية مدنية أهلية، ومسؤولو الوزارة يعون ما أعنيه بهذا الوصف الهادف إلى إبقائها بعيدة عن براثن البيروقراطية القاتلة للإبداع، وهو ما لا يليق بقرية كلها إبداع، منذ الفكرة حتى آخر معرض فني.

وإلى جانبها – على الطراز المعماريّ نفسِه – أقيم مسرحُ المفتاحة الضخم الذي كان رمزا فنيا، عبر أكثر من عقدٍ من الزمان، حتى غزته – في السنوات العجاف إياها - «الشيلات»، والأناشيد المستنسخة من «صليل الصوارم»، أو «يا عاصب الراس وينك»، فصار هذا المسرح العظيم رمزاً حزبياً رجعياً، إلى أن عاد «مسرح طلال مداح» إلى رشده وجذره، وتوارت عنه المسوخ الفنية، التي كادت أن تحيل قلب أبها النابض بالفنون والثقافة والتراث والجمال اللائق بالمكان، إلى قلب مكان لا أحد يستطيع تحديده؛ لأنه لا هوية ثقافية للهويات «عابرة القارات». وبالرغم من السنوات إياها، فقد صمدت جائزة المفتاحة، صموداً جزئياً، حتى غابت غيابًا نهائيا، وهي جائزةٌ وطنيّة تقديريّة بدأت سنة 1420، وتهتمُّ - في الجزء الأهمّ منها- بتكريم روّاد العمل الوطني في المجالات المختلفة، كما تهتمّ بتكريم روّاد الأدب، والثقافة، والفن، وقد كرّمتْ الجائزةُ عدداً من الشخصيّات الكبيرة على المستوى الوطني، ممن كانت لهم على أعمالهم بصمات واضحة، زادوا بها على أداء الواجبات الوظيفية، فكرمت هذه الجائزة عدداً كبيراً من: الأمراء، والوزراء، والشعراء، والموسيقيين، والتشكيليين، والإعلاميين، والدعاة، وكتّاب القصّة، والرواية، والمقالة، وكانوا يُقدمون بطريقةٍ خاصّة تقومُ على قراءة منجزاتهم قراءةً أدبيّة تختزل سيرهم الشخصيّة في صورة لغوية بديعة، ليتسلموا – بعدها - جوائزهم في لحظات شبيهة بالخيال.

كان اختيار المكرمين يتم من قبل أمير منطقة عسير شخصيّا، ولم تكن الجائزة تكرم الذين لا يحترمون المكان وأهله، ولا الذين لا يحترمونها هي، ولا يحترمون راعيها، حتى أتى على الناس زمان اختلطت فيه الحبال بالنبال، والرجال بأشباههم، فكرمت الجائزة من كانوا يرفضون – لغرورهم وغطرستهم وتطرفهم- تقديم الفائزين بها، والله المستعان على ما أصف!! أمّا في الجزء الآخر من الجائزة، فكان المبدعون في المجالات المختلفة يتنافسون على الفوز، بعد أن تُعرض أعمالهم على لجان تحكيم متخصصة وسرّية، لتختار ثلاثة مرشحين من المبرزين في مناشط مهرجان أبها كل عام، حين كانت المناشط شعرا ومسرحا ومعارض وأمسيات فنية، وقبل أن يتشابه بعضها مع ما نشاهده على «يوتيوب» من مناشط كان الدواعش يقيمونها في شوارع مدينة الرقة.

في الحفل السنوي للجائزة، الذي كان يقام في نهاية موسم الصيف، كان يتم الإعلان عن فائزٍ واحدٍ في كلّ مجال، وكان ينهض بمهمة الإعلان عن الفائز رمزٌ وطني أو إعلامي أو فني أو أدبي، وكانت أهم تلك المجالات هي: الإعلام، والشعر الفصيح، والفن التشكيلي، والرياضة، وأفضل فعالية، وغيرها، وكان الإعلان عن فائزٍ واحد من ثلاثة مرشحين يحقق عنصر المفاجأة، الذي كان ركنا رئيساً من أركان التشويق، وسببا في انتظار الجائزة، وكثرة متابعيها.

وحين أقول: إن جائزة المفتاحة صمدت صمودا جزئياً، فذلك لأنها - في سنوات احتضارها – صارت تقام على هيئة «حفل تكريم»، ولم تعد «جائزة»، كما أنها لم تعد تقام في وقتها الملائم، وهو نهاية موسم الصيف، ولم تعد تعتمد على لائحتها، فضلًا عن أنه لم تعد لها لجان تحكيم سرية أو علنية، ولا مجالات محددة، ولا معايير واضحة، وباتت خاضعة لمزاج المسؤول أو أتباعه، مما أفقد هذه الجائزة سمات الجوائز، ولم يعد لها منها سوى اسمها، وهيبتها الأولى.

لن أطيل، ولكنني أختم باقتراح هو: أن يُغير اسم: «جائزة المفتاحة»، إلى: حفل تكريم الرعاة والرواد، أو: حفل اختتام «الأنشطة» الصيفية؛ ذلك أن للجوائز في المفهوم الحديث لوائح ومجالات وشروطا دقيقة، وكلها غائبة عن جائزة المفتاحة في حالها الراهنة.. والله أعلم.