(1)

في ذلك المجلس، القابع على تخوم نجد من جهة الجنوب، تُحمس القهوة من قبل صلاة الفجر، وما إن تبدأ إشراقات الصباح الباكرة بالظهور، حتى يتوافد الأهالي وأصحاب الحاجات على الشيخ الكبير صاحب المجلس الكبير. فعليه تعرض الشكاوى والمظالم والاحتياجات، هذه شكوى من ضعيف يبحث عن حل لينهي به مظلمة لحقت به، وهذا يرغب شفاعته لتسهيل أمر خاص تعقّد في أحد أدراج المحافظة، وذاك زعيم قومٍ جاء يطلب حلاً لمشكلة وقعت بين أبناء عمومة يسكنون على أطراف الوادي الواسع ويخشى انفلات زمام الأمر من بين يديه، وآخر ينتظر الدور آملاً من الشيخ صاحب الجاه الرفيع بالتدخل لإنهاء شأنه الذي رفضه أحد مديري الدوائر الحكومية.

الشيخ مران بن متعب بن قويد. سليل المشيخة والإمارة في وادي الدواسر، والذي لا يمكن أن يمرّ وجيه بالمنطقة من دون المرور عليه والالتقاء به. في مجلسه الأشبه ما يكون بالبرلمان الشعبي الصغير، يدير الشؤون القبلية التي تصعب في تلك النواحي وما جاورها بما يتوافق مع ما يراه ولاة الأمر الذين يعتقدون فيه أنه أحد أبرز القيادات القبلية على الإطلاق. شيخ حكيم عاش فوق المائة عام، سنوات طويلة ومديدة وحافلة بالخير والعطاء والبذل والحكمة.

(2)

يظهر على السطح الاجتماعي أحد أبناء ذلك الشيخ. ولأن ذلك الابن يجمع بداخله المشيخة والأصالة مع ما اكتسبه من علم ومعرفة جراء حصوله على أعلى الشهادات العلمية، فإنه لا يكتفي بذلك المجلس وبالأدوار التقليدية المحدودة الأثر حتى وإن كانت عظيمة.

يبدأ في البحث عن كيفية الارتقاء في سلم المجد عبر إطار المنظومة القبلية وما تفرضه من توجهات واتجاهات، فتدلّه رؤيته الواسعة على ضرورة توسيع ثلاثة دوائر (دائرة العلم، ودائرة المعرفة، ودائرة العفو). وحينها يبدأ هذا المحمد في تأسيس أولى الخطوات الجادة لمشروعه العلمي والمعرفي والتسامحي.

مؤسسة محمد بن مران بن قويد الخيرية القائمة على ثلاثة محاور: محور نشر المعرفة عبر ديوانيتها الشهيرة. ومحور دعم العلم عبر تأسيس الجائزة العلمية في مدينة وادي الدواسر. ومحور العفو بين الناس عبر مبادرته العظيمة (مبادرة عفو).

من يعرف محمد يندهش من هذا النشاط والحيوية اللذين يجعلانه يتحرك على طول المملكة وعرضها للسعي في حاجات الناس والضعفاء.

ففي الصباح وبحكم عمله العسكري، فلا أحد يعرف على وجه التحديد عدد الأشخاص أصحاب الحاجات الخاصة الذين سعى في التشفع لهم ونقلهم من مكان لآخر. وفي المساء لا تخلو مجالس الوجهاء في الرياض وما حولها من حضوره لمناسباتهم وتلبيته دعواتهم من أجل أن يمرر لبعض الشخصيات الكبيرة مطالب خاصة لأناس لا ينفكون عن رغبتهم بأن يتدخل ليساعدهم في إنهاء مشاكلهم وإشكالاتهم.

تشرب عمل الخير والسعي بالإصلاح بين الناس من صغره، ولأنه رجلٌ منتج وفاعل فإنه لم يكتفِ بالتنظير والحديث عن أدوار مشايخ القبائل التي بدأت بالذوبان، بل سعى في أن يُمأسس أعمالهم ومهامهم وأنشطتهم، ويضع لها القواعد الرسمية حتى تكون واسعة الثمار، كبيرة العطاء، شاملة للنفع.

(3)

وحتى بعد الرحيل، لن ينضب النهر عن التدفق والجريان.