جعل الله تعالى الأحكام التكليفية المتعلقة بالعباد خمسة، طرفاها الواجب والمحرم، فالواجب يستحق الثواب فاعله ويستحق العقاب تاركه، والمحرم مقابل له وعلى نقيضه فيما يترتب عليه، إذ يستحق العقاب فاعله ويستحق الثواب تاركه.

ويشترك هذان الحكمان في أن الإثم والعقاب الإلهي يترتب عليهما وذلك بترك الواجب وفعل المحرم، فكان من رحمته سبحانه بعباده أن جعل لكل منهما حمى وحصونا وأسوارا تحول دون التفريط في الواجبات، ودون التهاون في المحرمات.

فحمى الواجبات السنن، وتسمى النوافل والمستحبات، وهي ما يستحق الثواب فاعلها ولا يستحق العقاب تاركها، فكلما استكثر العبد من نوافل الصلوات كالسنن الرواتب والوتر وقيام الليل والضحى، كلما عظمت في نفسه الفرائض وكان أشد حرصا عليها وأكثر خشوعا وحضور قلب في أدائها، وكلما تهاون في السنن قل شأن الفرائض في نفسه وإن لم يشعر بذلك، وضعف استحضار الخشوع في القيام بها، حتى تجد من لا يصلون سوى الفرائض أكثر الناس تكاسلا عنها وتأخيرا لها عن أوقاتها، وربما نسوا أداء بعضها، والأمر كذلك في السنن المصاحبة للصلاة من رفع اليدين بالتكبير وقبضهما في القيام ونصبهما في السجود، كلما كان العبد بها أقوم كلما كان لفرائض الصلاة وأركانها أحفظ.

وهكذا الأمر في سنن الصدقات والصيام والعمرة والحج.

وكذلك المكروهات، وهي ما يستحق الثواب تاركها ولا يستحق العقاب فاعلها، وضعت بين يدي المحرمات صيانة للعبد من الوقوع فيها، فقد حال الله تعالى بين العبد وبين كبائر الذنوب بالعديد من المكروهات، بل والعديد من المحرمات أيضا.

ويشترك المستحب والمكروه في كون كل واحد منهما يؤول إلى الآخر في جانب الترك، فترك المكروه مندوب إليه، وترك المندوب مكروه.

وبهذا التشريع العظيم يجد الفرد نفسه أقرب إلى الله تعالى وأحب إليه في كمال أدائه للفرائض وكمال ابتعاده عن المغاضب، مصداقا لقوله تعالى كما في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن طريق أبي هريرة: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

وحين يصبح ذلك خلقا في المجتمع فيتواصون بفعل السنن وتجنب المكروهات يكمل فيهم القيام بالدين وتعظيم أمر الله تعالى ونهيه وتعظيم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه، ويشيع فيهم فعل الخير، ويتبارك رزقهم كما أخبر تعالى بقوله: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا﴾. ويتحقق لهم وعد الله عز وجل بالنصر والتمكين كما وعد الله في قوله: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾.

وأعظم من ذلك ما لهم في الآخرة من الجنة والنعيم المقيم: ﴿تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم﴾.

ولذلك فإن من الصفات التي تحمد لأي شعب: أن يشيع فيه فعل السنن وترك المكروهات، لأن ذلك دليل على توفيق الله لهم واستحقاقهم محبته عز وجل ورحمته، فإن محض الطاعة لله ورسوله دون تفريق بين فرض ونافلة، والتكثر من السنن والنوافل من جوالب رحمته سبحانه كما قال: ﴿وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون﴾، ورحمته عز وجل في الآخرة تجنيب عباده عذاب النار، ورحمته في الدنيا تجنيبهم مصائبها وويلاتها، وكفايتهم همومها وغمومها.

لكن الشيطان وأولياءه ومن استغوتهم خطواته لا تهدأ نفوسهم ولا تستقيم أحوالهم وهم يرون مجتمعا مسلما يسعى نحو الكمال في طاعة ربه بالحفاظ على السنن وتجنب المكروهات، فيسعون إلى هدم التدين في المجتمع بادئين عملهم هذا بإشاعة الاستخفاف بالسنن والمكروهات، حتى إذا تجرأ الناس على ترك المسنونات وفعل المكروهات انكشفت أمامهم الفرائض والمحرمات، وبدأت الجرأة على ترك ما فرض الله أو التهاون فيه، وفعل ما حرم الله أو التهاون فيه.

وربما كفى الشيطان وأولياؤه بعض المتفيهقين ممن دافعهم التعالم أو الغرور المعرفي أو طلب أمر من أمور الدنيا إلى تحمل مغبة الترويج للاستخفاف بالسنن والمكروهات؛ ومهما اختلفت دوافع دعاة الاستخفاف فإن مآلات دعوتهم واحدة، وهي تجريد المجتمع من الحصون التي أمره الله باتخاذها لحماية جناب فرائضه ونواهيه.

فتجدهم يكتبون المؤلفات والمقالات ويملؤون المواقع من أجل توهين شعور الناس حين إقبالهم على سنة من السنن، ولا تجد لأحدهم حرفا لإنكارا لمعصية شائعة أو تعظيما لسنة مهجورة، وتحس من نقدهم لتلك الطاعات وكأنما هي المعاصي التي لا بد من بترها وإنقاذ المجتمع منها.

فكلما لزم الناس سنة أو أقبل موسم من المواسم التي جعلها الله تعالى ليستمطر الخلق فيها رحماته تتابعوا على تشكيك الناس فيما لزموه من الخير وتوهين عزائمهم عن المضي في لزوم ما هم عليه.

فيكتبون عن صلاة الجماعة، وأنها ليست واجبة وإنما هي سنة، وما القول بوجوبها إلا تشدد حنبلي! ويكتبون عن صلاة الضحى ويشككون في أن رسول الله كان يصليها! ويتناولون صيام الأيام البيض وأن الحديث فيها لم يثبت.

ويتناولون صيام الست من شوال وأن مالكا لم ير أهل المدينة يصومونها. وإذا جاءت العشر الأول من ذي الحجة من كل عام طاروا بالتشنيع على منع الأخذ من الشعر والأظفار فيها بحجة أن ذلك مكروه وليس بمحرم.

ثم يشنعون على اعتياد الناس صيام تلك العشر وكأنهم اعتادوا باطلا أو مأثما.

وإذا أقبل عاشوراء تنادوا في إنكار الحديث بأوهام من تلقاء أنفسهم أو تزهيد الناس بطرق شتى في صيام يوم قبله أو يوم بعده.

الشاهد أنهم لا يتركون أمرا تواصى الناس به مما في وجوبه خلاف إلا وألحوا على ترجيح القول بسنيته وتسفيه من يقول بوجوبه والتشنيع عليه، ولا يجدون سنة ألف الناس فعلها حتى أصبح حالها عندهم كحال الواجبات من طول ما لزموها إلا اشتدوا في أمر تضعيف القول فيها والتهوين من أمرها، كإغلاق المحال التجارية وقت الصلاة وغطاء المرأة وجهها، وإضفائها العباءة على ثيابها حتى وصل بهم الأمر إلى إنكار بدء الكلمات بالتسمية وحمد الله، بحجة ضعف الحديث، وكأن تسمية الله وحمده تأخذ من أوقاتهم أو تشوه أحاديثهم.

إن من يتابع هذه الحملات وتجددها واشتداد ضراوتها في كل عام يستقر في خلده أن هناك عملا يشبه أن يكون ممنهجا لمحاربة تمسك المجتمعات المسلمة بالسنن وتجنبها للمكروهات، يؤكد ذلك أن كل هؤلاء الذين يجردون أقلامهم في مواسم الخير للتزهيد بعمل الصالحات ليس منهم من يكتب مقالا أو تغريدة في نقد المبتدعات في الدين مما ليس له أصل شرعي كإقامة الموالد أو الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب أو ليلة النصف من شعبان، أو التوسل والاستغاثة والذبح لغير الله أو الحلف بغيره سبحانه وتعالى، بل ربما رموا من ينكر هذه المبتدعات بالصلف والتشدد وإثارة النعرات.

إذا فالأمر خطير، وواجب المجتمع أن تنكشف له أغراض هؤلاء، ويحمد الله تعالى كلما أنعم الله عليه بالتواصي بسنة من السنن، ولا يلقي بسمعه إلى أمثال هذه الدعوات ولا تزيده إلا إيمانا وتسليما.