أعاد الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد تموضعه، تحول من رئيسٍ سابق، إلى صانع فرص سلام.

على الأقل ما لم يكُن صانعا لتلك الفرص، فهو باحثٌ عنها، قدم نفسه للعالم من خلال رسالة بعث بها للرياض مُخاطباً ولي العهد، على أنه مبعوثٌ دولي، أبدى استعداده لتشكيل لجنة تعمل على إنهاء الحرب في اليمن، يعتصر قلب نجاد على من سماهم في رسالته "الأبرياء"، أمضى فترتين رئاسيتين يعتبرهما البعض "حمّام دمٍ" أشرفت عليه الرئاسة الإيرانية، رمت بكل ثقلها في أزمات المنطقة، في العراق، وسورية، ولبنان، حتى أفريقيا، ولا أنسى غزة المُحتلة من حركة حماس الإرهابية.

تحول الرئيس الإيراني الأسبق الملطخة يداه بالدماء إلى حملٍ وديع، حتى إن تناسى، يمكن أن نذكره، في عمليات التوسع المبنية على ثورة الخُميني، التي قادته يوماً ما، لأن يُشير بإصبعيه بعلامة النصر خلال دخوله مشيخة الأزهر الشريف في القاهرة، إبان فترة حكم الإخوان، كانت إشارة تعني أن وراء الأكمة ما وراءها، استعادة إرث الدولة الفاطمية في مصر، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، التي تتسق في النهج والسياسة مع الثورة الإيرانية، كان هدفاً إيرانياً واضح المعالم، لكنه سرعان ما انتهى وتبخر بعد إسقاط الجماعة على يد أبناء الجيش والقوات المسلحة التي انحازت إلى الشعب.

قد تختلف قراءات تلك الرسالة "المُنمقة" من شخصٍ لآخر، إلا أنه في اعتقادي أن جُل التصورات ستُجمع على أن خط السياسة الإيرانية بات مفهوما ومكشوفا، إذا ما ربطناه بالانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة في نوفمبر المقبل.

الأمل يلوح في الأفق الإيراني بأن تذهب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى غير رجعة، في ذلك فرصة أو "قُبلة حياة" للإدارة الإيرانية، ترتبط برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على طهران.

بدا واضحاً أن التصور الإيراني يسعى إلى العودة للعمل بالاتفاق النووي، الذي أبرمته مجموعة (5+1) في يوليو 2015، والذي أنهى عشرة أعوام من المفاوضات والخلافات، ونص على تقليص البرنامج النووي الإيراني، مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، لكن الرئيس الأمريكي بمجرد دخوله المكتب البيضاوي أعلن انسحاب بلاده من ذلك الاتفاق، من هذا المنطلق تستميت الجمهورية الإيرانية على فوز نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن بالانتخابات المقبلة، أملاً بإعادة العمل بالاتفاق "المتناقض"، والذي لم يناقش أكثر من بنودٍ تقنية وفنية، ومنح طهران شرعيةً دولية لامتلاك سلاح دمار شامل، ولم يحرمها منه في الأساس، ناهيك عن أن تصدير الميليشيات المسلحة وتعزيز الطائفية ودعم المتطرفين لم يكن مطروحاً على طاولة المفاوضات.

في تصوري أن رسالة الرئيس الإيراني الأسبق ذات أهداف واضحة ومحددة، هي محاولة داخلية لصرف الانتباه المحلي والتشتيت في دولةٍ تشتعل يوماً بعد يوم، فيروس كورونا يتفشى بشكل هستيري، النظام صحي هش، التفجيرات المُبهمة تعم البلاد، ذلك يعني أن الدولة مُخترقة أمنياً وسياسياً، بات النظام الإيراني يشعر بالحرج أمام مواطنه، الذي يوشك على فقدان أمنه واستقراره في بلاده، وقبل ذلك فقد الثقة بحكومته، الواضح أن الدولة لم تعد قادرة على حمايته.

الاقتصاد الإيراني في الحضيض التومان بلغ مستوى متدنيا في سعر صرفه مقابل الدولار، والاستنجاد بالصين اقتصادياً لم يعد مُجدِيا، سُليماني الذي كان رمزاً للعنفوان الإيراني "الكارتوني" تم قتله بطائرة وجهتها سيدة من إحدى القواعد الجوية الأمريكية على بُعد أكثر من خمسة آلاف ميل، ملف مُثقل تُعاني منه الإدارة في طهران على المستوى المحلي، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، يتضح أن الرسالة للاستهلاك الدولي، ما إذا كانت هناك إدارة أمريكية جديدة ستفرزها الانتخابات الرئاسية المقبلة، وللدول الأوروبية التي أبرمت الاتفاق النووي، ستكون مُمهداً لعلاقاتٍ إيرانية أمريكية أوروبية جديدة، قد يتساءل أحدهم، لماذا أحمدي نجاد؟ سؤال مشروع، سأقول حتى لا تُحسب الرسالة وتصبح طلباً رسيماً من دولة إلى آخرى.

يُفترض أن أُشير هنا إلى أن أطرافاً إيرانية استبقت تلك الرسالة، وقالت إن "طهران والرياض بحاجة إلى تهدئة الأوضاع والخلافات وعبور الإشكالات المختلفة"، من يفهم السياسة السعودية يُدرك أنها لن تأخذ النوايا الإيرانية على محمل الجد، ما لم تتوقف إيران عن تصدير الثورة، وتنتهي عن دعم الإرهاب "السني والشيعي"، فتفجيرات بقيق لا تزال حاضرة، والصواريخ البالستية الحوثية ذات المصدر الإيراني أيضاً حاضرة.

أعتقد أنه حتى وإن كان أحمدي نجاد الذي تعتبره طهران مواطناً عادياً، على رغم من كونه عضواً في مجلس تشخيص مصلحة النظام، إلا أن الذهنية السياسية الإيرانية تُخيم على توجهاته، كونه أحد صناع القرار الإيراني لسنوات مضت، طهران في العراق هي الداعم الأكبر للميليشيات الطائفية والقتل باسم "ثارات الحسين"، في سورية الوضع أدهى وأمرّ، قواتها تقاتل وتُحارب على الأرض، تُحارب وتقاتل من؟ الشعب السوري! وجودها بالمعنى السياسي والدولي والأخلاقي في سورية احتلالاً واضحا، وقياساً على ذلك، تعتبر الجمهورية الإيرانية السبب الأكبر للأزمة اليمنية – التي حركت إنسانية أحمدي نجاد وتباكى عليها، باعتبارها الممول الأساسي لجماعةٍ مارقة، استولت على الحكم في اليمن بالسلاح الإيراني.

تُدرك المملكة والعالم بأسرة، أن إيران هي العامل الأساسي للاضطرابات في المنطقة، وانتهى عقلاء السياسة إلى أن تصحيح هذا المفهوم وتغيير المسار المتطرف بحاجة إلى أفعال وليس أقوال وخطابات رنانة، أعي بالمُطلق أن الجمهورية الإيرانية في موضع ضعف مقابل موقف القوة الذي تعيشه المملكة، من هذا المنطلق لم تُجب الرياض على تلك الرسالة، وأجزم أنها "لن تُجيب"، لأن ولاية الفقيه في كثير من النزاعات التي تشهدها المنطقة العربية، جزءٌ من المشكلة، وليست جُزءاً من الحل.. ولن تكون.