يعتادني - كلما توفي قريب أو صديق أو عزيز - إحساس لا أستطيع له بيانا، ولست أعني الحزن والألم اللذين يغشياننا متى غال الموت من نعرف ومن لا نعرف، فذلك أمر هو مما له مساس بإنسانيتنا. وأنا أطوي خلف ضلوعي نفسا هلعة يوشك أن يمزقها الحزن متى بلغها نبأ الموت. على أنني لا أعني ذلك، لكن الذي لم أستطع تصويره، أنني كنت أنال تلك النفس بألوان من اللوم على أن أحجمت يوم كان جديرا بي أن أقدم، وأعرضت لما كان واجبا علي أن أقبل، وقد طالما أدرت في نفسي حديثا قاسيا مرا، ألومها فيه على شيء إن لم يكن جفاء، فيوشك أن يكون إياه: ألم يكن واجبا علي إن لم أكن مخالطا لهذا الصديق أو ذلك الأستاذ أن أهتف به، أو أراسله ما دامت المراسلة والمهاتفة لا تكلفني إحداهما مشقة ولا عناء، فإذا قضى هذا الأستاذ أو ذاك الصديق، جعلت النفس اللوامة تنزل بي من الآلام والمواجع ما الله به عليم، وتلقي علي سحابة دكناء من الحزن الذي لا سبيل إلى الصدود عنه.

لمت نفسي، كثيرا، يوم مات أستاذي الحبيب الدكتور بكري شيخ أمين - برّد الله مضجعه - على تقصيري في جانبه، فأنا محب له، بار به، لكنني قصرت في حقه كثيرا، وكان يكفي اتصال، فإن لم يكن فرسالة. وعلم الله أنه - وهو الأستاذ وأنا التلميذ - كان أحرص علي من حرصي عليه، فما كان الأستاذ الجليل ينزل جدة حتى يتصل بي، وكان يفرحني اتصاله، وكنا نلتقي، وكان يبهجني لقاؤه، حتى إذا آب إلى بلاده شغلني ما أنا فيه عن صلته، وما كان لشيء أن يشغلني عنه، فلما توفاه الله لمت نفسي وأسرفت في اللوم.

وعلى ذلك كانت صلتي بأستاذي الدكتور عاصم حمدان - تقبله الله في الصالحين - كنت ألتقيه في هذا الجمع من الناس أو ذاك، فأجدد العهد به، ثم يمضي كلانا إلى غايته، ويتفق لي، بعدها، أن أشهده هنا أو هناك، وكان الأستاذ الحبيب حريصا على مواصلتي، ويعلم الله أنني كنت أغشى بيته، في مدد غير منتظمة، فيلقاني هاشا باشا، وكان يهديني كتبه كلما صدر له كتاب، وكنت كذلك، بل إنه ضرب المثل الأعلى في التواضع والثقة في النفس يوم رغب إلي، وأنا تلميذه، في أن أقدم واحدا من كتبه إلى القراء، وكان يؤثرني بألوان من العطف والحدب والتشجيع، ودلت المقالات التي اختصني بها على أستاذ يرعى تلميذه، فأدركني من فضله ما لا أستطيع أن أكافئه إلا بالدعاء.

ولا زلت، إلى يومنا هذا، غير مستطيع الكتابة عن أخي الأستاذ زيد بن زايد الثقفي - طيب الله ثراه - لم يكن زيد زميلا كعشرات الزملاء الذين يمرون بنا. كان توأم الروح، منذ عملنا، معا، في القسم الثانوي لمدارس الثغر النموذجية بالخالدية، بجدة، حتى توفاه الله إليه. كان زيد نديدا لي في سنة الميلاد، ومماثلا لي في التخصص، وكان يطوي، خلف ضلوعه، نفسا كأنما أخلصها الله - تبارك وتعالى - للخير والحب والجمال، فلا ألاقيه إلا باسما، وكان يشملني بعطفه، يوم أذاقتني الأيام ظلما، وكادت تسلبني ثباتي وطمأنينتي، وظل كما عرفته يمنحني البسمة والبهجة، والمرض اللعين ينخر جسده، حتى إذا بلغني نبأ موته لم يكفني البكاء، فأنشأت ألوم نفسي على تقصيري في حق صديق كان لي بمنزلة الأخ، ورفيق عمر ما تخلى عني يوم صد أساتذة وأصدقاء.

كنت أبحث عن شيء ضاع، شيء لا أستطيع الظفر به، وكنت أعود على نفسي باللوم.. لم قصرت بزيارة أو اتصال، وكان الألم يعتصرني متى عرفت أو قرأت أن بعض الأصدقاء كان بالأمس القريب في حضرة ذلك الفقيد، أو أنه هتف به، أو لقيه، هنا أو هناك. وكنت، من غير أن أدرك، كمن أعيته كلمات اللغة فلم يصب ضالته فيها، حتى أدركت أن العبارة التي تلائم ما أنا فيه، هي «الفرص الضائعة»، هذه العبارة التي جاءت على لسان الريس صديق (الممثل محمود البزاوي)، في المسلسل البديع «غراند أوتيل» ساعة تلقي نبأ وفاة زميل له. قال الريس صديق، وهو يحاور الست سكينة - رئيسة الخدم في الفندق -: «لم أعرف الزميل لأنني حديث عهد بالعمل، ولم يتح لي الوقت أن أعرفه، والحمد لله أنني لم أعرفه»! فلما قرأ في عيني سكينة الدهشة والاستغراب، تابع حديثه: «الحمد لله أنني لم أعرفه، كي لا ألوم نفسي إذا قصرت في حقه، ولو تقصيرا يسيرا؛ كأن يحييني فلا أرد عليه، أو أن أرد عليه من وراء قلبي، فأحس الآن بتفريطي في تلك الفرص الضائعة، التي لا نستطيع إدراكها مهما أردنا»!.

أجل، إن ما فرط مني تجاه قريب أو أستاذ أو صديق، فمسني ألم، وعدت على نفسي باللوم، ليس إلا تلك «الفرص الضائعة» التي ما كان لها أن تضيع!