عندما نطرح القضايا الأساسية في علم الجمال، ونحاول أن نرى كيف أجاب عليها النقاد العرب فسوف يكون مردودنا محدودا للغاية، وقد يعترض البعض بأن علم الجمال لم يكن معروفا عند العرب في ذلك الوقت، فكيف نطالبهم بأن يعرفوا وأن يحددوا موقفهم من مسائل لم تكن مثار بحث واجتهاد؟ غير أننا نرد على هذا التساؤل بأن العرب قد قرأوا فن الشعر لأرسطو، ولكن آراء أرسطو في الشعر لم تكن موضوع مناقشة عند النقاد العرب، كما أن القضايا الأساسية في علم الجمال تطرح نفسها على نحو حتمي عندما يحاول الدارس أن يقيم الأدب والفن، لو أننا أخذنا القضية الأساسية في علم الجمال، وهي تحديد مصدر الشعور الجمالي لما وجدنا إجابة مباشرة ومصاغة صياغة نظرية حول هذه المسألة عند النقاد العرب، كل ما نستطيعه في هذا المجال أن نقول إن الاهتمام البالغ بدراسة النص الأدبي والمحاولة الجاهدة لتفسيره يشيران إلى أن الناقد العربي في ذلك العصر كان يرى ضمنا أن العمل الفني هو مصدر الشعور الجمالي، هنالك آراء لعبد القاهر الجرجاني في التذوق لها أهميتها تعتبر اللغة مجموعة علاقات وتربطها بالمتلقي، وهنالك آراء أخرى حول هذا الموضوع للآمدي والصولي أقل أهمية، ولكننا لا نستطيع أن نعتبر مثل هذه الشذرات إجابة شافية، إذ هي لم تصغ في شكل نظرية متكاملة ولم توضع مثل هذه النظرية في سياق مذهب فلسفي عام، إلا إذا تعسفنا واختلقنا لهؤلاء النقاد والدارسين نسقا نظريا وفلسفة شاملة نلتقطها من هنا وهناك ونرغمهم على القول بها.

وإذا طرحنا مسألة أخرى في علم الجمال، لها أهمية بالغة، وهي الكشف عن مفهومهم للجميل خاصة فيما يتعلق بالكتابة النثرية والشعر، فسوف نجد أكواما من الإجابات ولكنها لا تشفي غليلا. فيقول بعضهم إن الجميل في الكتابة هو قدرتها على الإيجاز الدال الذي يصيب صميم المعنى «خير الكلام ما قل ودل».

وعندما يحاولون تعريف الكتابة فهي لا تزيد عن القول بأنها معنى يكسوه لفظ، اتفقوا على هذا واختلفوا، وذهبوا مذاهب شتى على ما بعد ذلك. وقد امتدت هذه الرؤية على مدى العصور من ابن سلام الجمحي إلى طه حسين دون تغيير تقريبا، كأنها قدر سيئ لا سبيل للفكاك منه أو تغييره.

والأدب والشعر خاصة حسب تعبيرهم لفظ ومعنى. المعنى معروف وشائع (يذهب الكثير منهم إلى أنه يجب أن يكون معروفا وشائعا)، ولكن الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يصوع هذا المعنى ببراعة وقوة فيجعله جميلا. وأكثر النقاد في المعنى في الشعر: هل يجب أن يكون مما سبق للعرب أن قالته أم لا؟ وانصرفوا إلى أمور بالغة السخف مثل سرقة المعاني، وهل تصح أم لا تصح، فكانوا يعتبرون بيت أبي تمام الذي يقول فيه:

عمري لقد نصح الزمان وأنه *** لمن العجائب ناصح لا يشفق

بأنه مسروق من قول ابن أبي عيينه:

ما راح يوم على حي ولا ابتكرا *** إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا

ولا أتت ساعة في الدهر فانصرفت *** حتى تؤثر في قوم لها أثرا

إن الليالي والأيام أنفسها *** عن غير أنفسها لم تكتم الخبرا

فتأمل!!

والحق أن عبثية هذه الرؤية ذات دلالة، إذ تشير إلى أن النقاد أنفسهم كانوا يشعرون بهذه العبثية. فإذا كان الشعر تعبيرا عن أفكار، وأن هذه الأفكار شائعة ومتداولة فأية إضافة حقيقية يمكنه أن يقدمها؟

سوف نعرض هنا بعض آراء أدباء ونقاد ذلك العهد حول هذه المسألة.

يقول الجاحظ: «والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتمييز اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من الصبغ وجنس من التصوير»، من الواضح أن الخلط عند الجاحظ، مصدره هو اعتبار المعنى مجموعة من الأفكار المجردة الشديدة العمومية، وأن مثل هذه يصعب التوصل إلى جديد فيها، فعلى الشاعر إذن أن يركز اهتمامه في الصياغة اللغوية. ورغم أن عبدالقاهر الجرجاني قد قدم إضافات مهمة في مجال تفسير الأدب وفي التذوق، إلا أنه في هذا المجال لا يتقدم خطوة واحدة، فهو يقول إنه يوافق الجاحظ فيما يقول من أن اللفظ مقدم على المعنى، والمعنى كما يراه مثل الذهب الخام يصوغه الشاعر كما يصوغ الصائغ الخاتم النفيس، ويقول أيضا إن المعاني هي الأساس، وأن اللفظ خادم لها، ثم يعود في موضع آخر ليقول «إن المعاني تأخذ قيمتها من اللفظ لأنه لا فضل للعلم بمواضع الكلم وإنما الفضل لحسن التخير ومعرفة الموضع».

ويقول في موضع آخر إنه لا أهمية للمعنى «من غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به واكشف عنه، وأتم له، وأحرى أن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية».

ويأتي ابن قتيبة ليجعل من هذه القضية شيئا مضحكا، وعبثيا للغاية، يقول «إن الشعر على أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه».

ولا ينسى ابن قتيبة أن يقول لنا إن الشعر نوعان: الشعر المطبوع والشعر المتكلف، وإن الشعر المطبوع هو الذي يصدر عن صاحبه وهو في حالة انفعال، وإن الشعر المتكلف هو ذلك الذي يعمد صاحبه إلى تقويم شعره بالثقاف، والذي نقحه بطول التفتيش، وأدام فيه النظر بعد النظر...«وأول ما يخطر في الذهن كيف ينسجم هذا مع قوله إن الشعر معنى تلبس لفظاً؟ وهل يعاب الشاعر، إذا كان فعلا يعبر عن فكرة، إذا قوم شعره بالثقاف؟ وهل يحتاج الشاعر إلى انفعال ليصيغ فكرة.

كما أن ما يدهشني فعلا هو كيف أنه لم يخطر ببال ابن قتيبة وغيره من الأدباء والنقاد، أنه كيف تأتى للقارئ أن يفهم المعنى في شعر قصرت ألفاظه عن معانيه؟ ولماذا لم يسأل هؤلاء أنفسهم: هل يوجد معنى دون لفظ؟