أيها الشباب احذروا الأيديولوجيا باسم الدين أو باسم الدنيا، احذروا الصحوة (الأيديولوجية) من أي نوع، سواءً كانت باسم الدين أو باسم الدنيا، فكل من قرأ رواية (1984) لجورج أورويل يستشعر فضاءات الصحوة وطريقتها في (التحسس والتجسس والمراقبة والمعاقبة تحت غطاء الحفاظ على أخلاق العقيدة الأيديولوجية)، وهذه الأوصاف التي بين القوسين تجدها في كل منظومة أيديولوجية شمولية.

(الأيديولوجيا) في ذاتها كلمة بريئة تعني علم الأفكار، لكنها مع تقادم الزمن اكتسبت مفهوماً يشبه عبارة (الإخوان المسلمون) فهي عبارة في ذاتها بريئة، بل وبراقة (إخوان ومسلمون)، لكن في داخلها مضامين أشد مكراً من كل الخرافات التي نسبت للماسونية، والتي ستراها حقيقة داخل هذه المنظمة الدولية المسماة (الإخوان المسلمين).

الأيديولوجيا ــ كما أفهمها الآن ــ هي عقيدة ذهنية تتلبس الشخص فلا يرى الواقع كما هو، بل يراه وفق عقيدته الذهنية، فالأيديولوجيا تجعل المتلقي يعيش عمى كاملا عن واقعه، ثم يبدأ في سلوك طريق الغرور والتباهي في امتلاك الحقيقة المطلقة والتبشير بها بطريقة متشنجة أو بطريقة لزجة أحياناً أخرى، فالأيديولوجيا تأتي على شكل مقال جديد لسلفي يحاول المواءمة ما بين (عقيدته) التي تستلهم الماضي في كل حاضرها، فتراها تقفز من الأسباب إلى مسبب الأسباب هرباً من حقيقة كل ما يحيط به مما لا سبب له فيه، فوصوله لعمله بسيارة ليست من اختراعه، واتصاله بجوال ليس من اختراعه، حتى نسيج ملابسه ليست من اختراعه، بل وصل الأمر إلى مكيفات مسجده وميكروفونه والطائرة التي تقله وأجهزة المستشفى الذي يتعالج فيه وأدويته التي يتعاطاها لضبط السكر في دمه، كلها أسباب تهين عقله الماضوي فكل ما هو فيزيقي حوله ليس من اختراع عقله، فيتجه إلى عالمه الميتافيزيقي يدس رأسه فيه بعبارة فيها من العقل العاري أكثر مما فيها من الستر (الله سخرهم لنا)، (لهم الدنيا ولنا الآخرة)... الخ.

الأيديولوجيا تأتي على شكل مقال جديد لحداثوي قديم يحاول أن يجعل (نقده الثقافوي) عقيدة فكرية فكل الواقع من حوله يقرأه من خلال ثقب (النسق) الذي تعلمه، فتحدثه عن اللغة يحدثك عن النسق، تحدثه عن المجتمع، يحدثك عن النسق، تحدثه عن الاقتصاد يحدثك عن النسق، والخطير هنا أن هذه العقيدة النسقية تلتهم حتى خصومها، (أحد الأكاديميين الشباب أرسل لي رابط ورقة نقدية تخص هذه الأيديولوجيا النسقية) قرأتها فإذا بها وقعت في نسق النسق، ومن لا يفهم هذه الورطة النسقية وتحولها إلى أيديولوجيا من (المرايا المحدبة كما يسميها عبدالعزيز حمودة) والتي تدور على نفسها فليواصل القراءة بمثال موازٍ عن (الأيديولوجيا الدينية) يشرح الفكرة أكثر عن معنى (الأيديولوجيا) كعقيدة ذهنية لا يستطيع العقل الخروج منها.

(الأيديولوجيا الدينية) أو العقيدة الذهنية عند الإخوان المسلمين قامت بأدلجة كل ما في العالم (أدلجة السياسة، أدلجة الاقتصاد، أدلجة الفن، أدلجة حتى الفنادق والمطاعم، أدلجة حتى الهيئة الشخصية للفرد، أدلجة حتى نغمات الجوال الشخصي للفرد) فلا يستطيع الشخص الخروج على هذه الأيديولوجيا/العقيدة الذهنية، وكثير ممن حاولوا التخلص من هذه الأدلجة قاوموها بنفس أدواتها، أي أنهم أعادوا إنتاجها بالمقابل دون أن يشعروا، فعندما يقنعك شخص بأن حياتك محاطة بمواضعات لا تخلو من (حكم ديني) لتصبح حتى وقفتك موضع سؤال ديني (هل يجوز المراوحة بين الأقدام واقفاً أم لا يجوز؟)، وعلى القارئ أن يعمل خياله ليكتشف تعري هذه الأيديولوجيا التي لم يعرفها الصحابة الكرام مع نبيهم، بينما أصحاب هذه العقيدة الدينية السامَّة لو كانوا في عهد رسول الله وقال لهم ما قال للصحابة في تأبير النخل: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، لجادلوه ولزايدوا على صاحب الوحي بالوحي ولقالوا: كيف تكون الرياح لواقح إذاً؟.

نعود للأيديولوجيا النسقية، أو العقيدة النسقية عند أتباعها، فإذا تكلمت فلغتك العربية ذات نسق فحولي، وعليه فلن تجد المرأة فكاكاً من قدرها اللغوي سوى الهرب إلى بلاد لا تتكلم العربية، وإذا ناقشت الاقتصاد، أعاد عليك نظريته في الأنساق الثقافية ليعيد إنتاج (القيد الإيديولوجي) الذي يشعر به كل قارئ لكتب هذا (الأيديولوجي الجديد) وكما أن الأيديولوجيا الدينية أصبحت قيداً على عقل كثير من المتدينين البسطاء، فإن العقيدة النسقية اغتالت كثيراً من عقول الشبيبة (التي تحاول الثقافة) فقد جمعت لعبة النسق بين (بساطة الإسقاط ومتانة الفكرة)، بينما في حقيقتها ليست سوى قيد أيديولوجي يجعل الشاب المتمكن من أدواته الفكرية يجد في منتهاها ضرورة كراهية اللغة العربية إن أراد التحرر من قدره النسقي، والاستعاضة عنها بلغة أكثر انفتاحاً بينما لو قرأ هذا الشاب تأملات (فاطمة المرنيسي) في بنية اللغة الفرنسية لرأى فيها كل عيوب اللغات الأخرى بما فيها العربية، ورغم ذلك لم تمنع اللغة الفرنسية أبناءها من المضي في فضاءات فلسفية فكرية واجتماعية أكثر حرية وتقدماً من أسلافهم.

يبقى السؤال عن الرأسمالية لماذا لا تعتبر عقيدة فكرية؟ أخطر ما في الرأسمالية أنها تنظر للاشتراكية وهي تشك في نفسها، أي أنها تحاول معالجة الثغرات التي يعريها الفكر الماركسي داخل البنية الرأسمالية، إن الرأسمالية تتواضع أمام (الشك) في صواب طريقتها، ولهذا تستطيع استيعاب أمثال سلافوي جيجك داخل فضائها، ولا يمكن أن تسقط الرأسمالية في العقائدية (القاتلة) إلا إذا حمل رايتها شخص دوغمائي منغلق الفكر والأسلوب، وأكثر من يجمع هذه الصفات هو (ترمب) فلولا أن دولته دولة مؤسسات تجعل كرسي حكمه مليئا بالأشواك عبر المحاكمات والتنقيب في العثرات، وإلا فكل (كاريزما الطاغية) الآيل للسقوط بنفسه وبدولته موجودة فيه.

عزيزي الإنسان مهما كان جنسك وعمرك، الكتاب ثم الكتاب ثم الكتاب إلكترونياً كان أو ورقياً، تورط في أفكار الإخوان المسلمين وتعلم كيف تتخلص منها نهائياً بنقدها جذرياً، وليس بشتمها، الشتيمة ليست نقدا، تورط في النسق المزعوم وتوهم أنك مثقف لأنك أتقنت لعبة (المرايا المحدبة) فيه، لكن تخلص منه في أقرب مدرسة فكرية أخرى، القراءة مجموعة من الورطات، والعقل مع القراءة تزداد لياقته في التحليق فوق حفر الأفكار مهما كان أصحابها بارعون في نصب فخاخ (الأيديولوجيا) باسم الدين أو باسم الحياة، لا تتخل أبداً عن محاولة (الجرأة في استخدام عقلك) لعلك تصل يوماً لخبرتك الخاصة في استخدام أجنحة عقلك في كل الاتجاهات، وعندها لن تعاني فوبيا المرتفعات.