لا أريد أن أبدأ المقال بسرد تاريخي عن العلاقات السعودية الفرنسية ومحطاتها، ومدى قوتها السابقة، فهذا معروف ويستطيع الجميع الرجوع إليه من خلال المقالات التاريخية، لكن سأتكلم عن السنوات القليلة الماضية وحاليا.

من وجهة نظري فعدم وجود سفير سعودي في فرنسا لمدة يشير إلى رسالة لا يجهلها أي متابع للشأن السعودي الفرنسي، فما هو سر البرود الحالي في العلاقات، أو - حتى لا يزعل البعض- نقول عدم وجود الدفء الكافي مقارنة بما كان سابقا؟ الموضوع باختصار أن المملكة تغيرت، ولم تستوعب فرنسا هذا التغير إلى الآن، بالإضافة إلى بعض المغامرات الفرنسية غير المحسوبة!

السعودية لم تعد مثل ما كانت سابقا، أو كما يتصورها بعض الفرنسيين، وهي أن تعرف شريكا سعوديا مقربا ، وتمشي الأمور، وهذا الشريك تغيره كلما تغيرت القيادة السياسية. الفساد والعمولات والاستعانة ببعض عرب الشمال، الفرنسيين من أصول عربية، لم تعد تجدي، الآن الأمور مكافحة فساد وشفافية وتنافس مع الجميع، وماذا ستقدم للسعودية الجديدة.

وسأضرب مثالا على أحد المجالات من باب التوضيح، وهو التعاون العسكري، للأسف بعض الشركات الفرنسية لا زال معششا في رأسها أن الموضوع مجرد معرفة شريك جديد، أو مفاتيح أو معارف للقيادة السياسة، ولا تعرف أن الموضوع أصبح نقل تقنية، وخدمات ما بعد البيع وشراكات، أكثر من مجرد بيع وشراء، وكان الكثيرون يشكُون من البخل الفرنسي في نقل التقنية، وأيضا سوء خدمات ما بعد البيع، وغلاء أسعار الصيانة المبالغ فيها وتأخرها، وكانت تغطي ذلك علاقاتهم، أما الآن فهو عصر المجدد محمد بن سلمان، عصر الشفافية، إذا لم تكن شريكا ينقل تقنية، ويشارك ويعطي أسعارا معقولة فليس للمملكة حاجة بك، تعرف فلان أو علان لن يساعد في شيء، أكبر الشركات الفرنسية مثل نافال قروب لم تحصل على العقود التي تحلم بها لأنها لم تغير طريقة تفكيرها وتعطي العرض الذي يوافق تطلعات السعوديين، وشركات أصغر فازت بعقد الزوارق لأنها أعطت ما يتلاءم مع المعايير السعودية في نقل التقنية والجودة والسعر، لست أقول إن الصفقة كاملة؟! لكن نقل التقنية فيها مبشر، وليس لاعتماد هذه الصفقة من قبل الحكومة السعودية دخل بأي شكل من الأشكال، لأن صاحب الشركة يحكي عربي أو لأن الشريك السعودي مقرب، بل جميع الشركاء السعوديين الآن أصبحوا على مسافة واحدة من القيادة وما يقربهم أو يبعدهم هو قدرتهم على خدمة البلد!

دائما نقول للفرنسيين انسوا طريقة التعامل السابقة، وانسوا موضوع العلاقات وما تحت الطاولة، في فترة سابقة للأسف رأينا حتى تجار الشنطة صاروا تجار سلاح من عرب الشمال الفرنسيين!. وأيضا التواضع مطلوب، للأسف (شوفة النفس) في بعض الفرنسيين غير مقبولة، مرت مواقف كثيرة ومعارض حتى خليجية شهدنا الفرنسيين يتكلمون بالفرنسية، أمور فيها استنقاص من الخليجيين وكأن الخليجيين لا يعرفون لغة إلا الإنجليزية! أيضا كثير من العالم الآن يقدم ما تقدمون وبجودة عالية وبأسعار أحسن، لستم الوحيدين حالياً.

مشكلة بعض الفرنسين أنهم مزاجيون، وعندما يأخذون فكرة أو موقفا يصعب تغيير عقلياتهم، كأنهم شرقيون في بعض الأحيان. ندخل في نقاشات طويلة مع الفرنسيين حتى المثقفين منهم، يصعب تغيير صورهم الذهنية مع أن العالم تغير.

أذكر محاضرة لأستاذ علاقات دولية فرنسي وكان يشن هجوما على حركة معينة، أغلبنا تفاجأ جدا بتصرفه!، طبعا في الأكاديمية لا يوجد شيء مزاجي حتى لو لك رأي معين يجب أن تثبته من خلال فرضية ونظرية ومقارنات ومن ثم ترجح الرأي، للتبسيط الأكاديمية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية مثل (اثبت أن 1+1 = 2) حتى لو تعرف الجواب يجب أن تضع فرضية وتختبرها، وفِي العلوم السياسية لا يوجد شيء ثابت رقميا مثل الحساب، فالموضوع أيضا أعقد، ومع ذلك رأينا هذا الأستاذ يقفز للاستنتاج مباشرة، ربما لو كان في جامعة أمريكية أو بريطانية لرفض طرحه لأنه يعاكس العرف الأكاديمي! وكذلك الفرنسيون في كثير من المجالات يصعب إقناعهم، أذكر أن أحد الفرنسيين كان (يتشره) ويقول: الخليجيون يأتون إلى باريس للمتعة والزيارة، لكن عندما يريدون الاستثمار يذهبون إلى لندن! ببساطة رددت عليه، ألا ترى بعد البريكست وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أن كثيرا من الشركات الكبرى في العالم لم تنتقل من لندن إلى باريس، بل انتقلت إلى دول أوروبية أخرى!

ليس الخليجيون فقط بل العالم يعلم أن طريقتكم في الأعمال لا تناسب كثيرا من العالم.

ربما السبب الرئيسي لبرود العلاقات الفرنسية الخليجية هو المغامرات غير المحسوبة من القيادة الفرنسية، يعني ما الذي استفادته فرنسا من محاولة تلميع نظام إرهابي مجرم حاول التفجير في فرنسا مؤخرا من خلال دعوة وزير خارجية النظام الإيراني لقمة السبعة لمحاولة التوسط له لمقابلة ترمب! هذا ضرب بالمصالح الخليجية عرض الحائط من أجل لا شيء، لا هو الذي نجح في التوسط لمقابلة ترمب، ولا هو الذي كسب الخليجيين ولا العلاقة الفرنسية مع إيران تحسنت، بل الآن يبتزون الفرنسيين من خلال سجن مثقفين فرنسيين في إيران!

أيضا المحاولات المتكررة لغسل وتبييض وساخة حزب الله وشركائه والتوسط في صفقات أحضرت أسوأ سياسيي لبنان للحكم ومحاولة تبييضهم وتلميعهم.

الخليجيون أعطوا فرصا كثيرة لفرنسا سواء في الإمارات أو السعودية، وفي المقابل نجد تصرفات ومغامرات غير مفهومة تضرب المصالح الخليجية! البعض من الفرنسيين يريد الدفء في العلاقات مثل شيراك، وقلنا لهم كونوا واضحين مثل شيراك، وأيضا تقبلوا التغيير في السياسة السعودية سواءً الشفافية وعدم الفساد ونتوقع أن يرجع الدفء كما كان.

شخصيا أعترف أنه بعد الرياض محبوبتي، تعتبر باريس الأقرب للقلب، أحب أوساكا ونيويورك ولكن باريس لها المكانة الخاصة، أعشق الأدب الفرنسي منذ صغري وما زال فيكتور هوجو أديبي المفضل عالمياً، أحترم جداً الاستقلالية الفرنسية والعنفوان الديغولي، أقدر جدا أنه رغم المساعدة البريطانية لديغول في الحرب العالمية، لم يستطيعوا ركوب ظهره، ويحزنني أن الرأي والثقل والتاريخ الفرنسي العريق في السياسة أصبحت شبه تابعة لعدم النضج الألماني، ولمغامرات غير مجدية وغير محسوبة!

حتى على المستوى الشخصي كثير من الأصدقاء والصديقات لدي هم من الفرنسيين، وأستمتع بأسلوب الحياة الفرنسي، لكن فرنسا الآن ليست فرنسا التي نعرفها، ربما ما زلنا إذا أردنا الاسترخاء نختار باريس، لكن إذا أردت الاستثمار أو الأعمال سأذهب إلى غيرها! وهذا للأسف ما يردده الكثيرون حاليا.