طفلك هو صاحب البصمة الخاصة والمحدد الرئيس والأول لتحديد طريقة التربية الخاصة به، أو كيفية التعامل معه. التجارب والنظريات والبحوث كلها اجتهادات شخصية، تصلح لمن مر بها فقط ولا تصلح في بعض الأحيان كي نطبقها على أبنائنا، فشخصية الطفل والبيئة الخاصة التي نمى فيها وطريقة تفكيره التي لا بد أن تحمل بصمته الخاصة، هي التي تحدد كيف سيتم التعامل معه وليس التعامل كما سبق مع طفل آخر أو تجربة أخرى.

وهنا تكمن الصعوبة التي تمر بها كل أسرة وخاصة الأم أو الأب أو كليهما في محاولة التأقلم مع الشخصية الجديدة على الأسرة. فكل طفل يأتي إلى هذه الحياة محملاً بكم كبير من الجينات والصفات الوراثية والأطباع الموروثة من عائلتين مختلفتين تماماً، بدءاً من الشكل الخارجي وحتى أدق تفاصيل التفكير، الأنانية أو الإيثار، الانطواء والتحرر، حس الفكاهة وعبوس الوجه، الذكاء والتأخر، اللامبالاة وتحمل المسؤولية، التواكل والتوكل والانهزامية والطموح وإنكار الذات وحبها حتى بر الوالدين والعقوق. كلها صفات وطباع وأساليب حياة تمتزج وتنتج شخصا يتكيف عقله حسب تغلب نسبة جين معين على آخر وعلو صفة على أخرى، لا تصلح معه معايير تربوية واحدة ولا طريقة تربية جامدة، وإنما يكمن ذكاء المربين في محاولة احتوائه وتوجيهه بشتى الطرق ومساعدته على اختيار طريقه قدر الإمكان.

أتعجب دائما من الأشخاص الذين يهدون الأمهات الجدد كتبا عن كيفية التعامل مع الرضيع حتى سن الخامسة أو سن دخوله المدرسة، يقدمون لها قالباً جامداً يخلو من المشاعر الشخصية لتجارب آخرين، أو نظريات بحثية قابلة للنجاح أو الفشل على عينات معينة أو على فئة دون غيرها من الأطفال، متجاهلين تماماً تلك البصمة الخاصة، والعلاقة التي تنشأ وبطابع شديد الخصوصية بين الطفل وأمه، ومن ثم أبيه وعائلته، أو من يقوم باحتضانه لأول وهلة إن كان فاقداً للأم أو الاب أو كليهما، بدءا من حاسة الشم التي يحدد بها الرضيع أمه ثم تمييز الصوت وحتى الهمسات، إلى أن تتحسن حاسة البصر في شهور تالية يميز بها جيداً صورة أمه أو من يحنو عليه دون غيره، ويعرف بطرقه الخاصة كيف يحافظ على أن يكون دائما محاطاً بالاهتمام والحب، سواء أكان باكياً أو ضاحكاً ومعبرا بأصوات تختلف من طفل لآخر، يستطيع بها التعبير عما يريد. وهنا تنشأ علاقة من نوع خاص، فالأم تحاول أن تفك طلاسم لغة الرضيع في البكاء، وعندما تلجأ إلى الكتب والنظريات المكتوبة، تفاجأ بأن أيا منها لا يستطيع شرح وتوضيح ما يريده هذا الكائن الباكي، ووحدها هي التي تستطيع بعد تجاربها الخاصة معه أن توقف ذلك البكاء، وبعدها تفخر بنفسها وتجربتها التي خرجت منها خروج المنتصرين في الحروب العاتية. ومن ثم تحاول نقل تجربتها لأم أخرى وتكرر دون أن تدري استخدام النظريات الجامدة، والغفلة عن ضرورة خوض التجربة كاملة وبصبر شديد مع الطفل الذي يختلف كلياً عن غيره ممن سبقوه في تلك الأعوام الأولى.

كذلك عند التحاقه بأولى سنوات دراسته، يتوقع المحيطون به نسبة ذكاء دراسي وتحصيل قد يتفاوت حسب من يعلمه، وليس عيبا في شخصية أو عقل الطفل. فالمعلم أو المعلمة في سنوات الطفل الأولى تستطيع أن ترسم له طريقا ممهدا يسير عليه لسنوات طوال، وأخرى قد تتسبب بطريقتها وشخصيتها الجامدة في خسارة ثقته بنفسه وبقدراته، وهي تطبق بطريقة جافة أساليب التعليم والتربية التي حفظتها دون فهم ووعي، وتغفل عن أنها لا بد أن تكون لها هي الأخرى تجربتها الخاصة في فهم تلامذتها، كل على حدة، وتحديد الطريقة المثلى للتعامل معه، وإيصال المعلومة بالطريقة التي يفضلها، وهنا يكمن الفرق بين المعلم أو المعلمة القديرة التي تصلح لتربية أجيال، وغيرها ممن يحسبون على هذه المهنة وينتجون أجيالا فاقدي الثقة بقدراتهم، يشربون معلومات كي يلفظونها آخر العام.

الاهتمام بصناعة الشخصية من أهم ما ترتكز عليه مقومات التربية، وليس الطرق الجامدة والنظريات المحفوظة، دون أن يترك لها حيز التمدد والانصهار في جسد المجتمع. الاهتمام بأن يكون طفلك أو من تربي أو تعلم سطرا من الأسطر التي قرأتها، وتجربة من التجارب الجاهزة دائما ما يثبت فشله وخاصة مع الأبناء الأشد ذكاءً، ويفكرون بطريقة أو بأخرى خارج القالب الذي تعودت أنت ومن سبقك عليه بشكل أو بآخر.

احترام القدرات الخاصة لطفلك من بداياته وحداثة عمره إلى أن يبلغ مرحلة الشباب، أحد أكبر الركائز التي تصنع شخصية مستقلة غير تابعة، تقرر ماذا تفعل ولا تنتظر ما يفعل غيرها لتقلده. عليك القراءة ولكن خصوصية التطبيق، عليك التعلم وليس جمود النقل دون روح أو وعي، عليك التحدث عن تجربتك وعدم إلزام الآخرين بالأخذ بها.

خلق الله البشر بأصابع متشابهة ولكن لكل منا بصمته الخاصة، فما بالك بالعقل والقلب والميول وطريقة التفكير. فكيف لنا أن نحاول تعميم نظرية تربوية وبحث، قد يحتمل الخطأ والصواب على تلك الاختلافات البشرية، وخصوصا مع ذكاء قد يكون الأنقى، والأجدر أن يحترم، وهو ذكاء طفلك الذي يحتاج فقط أن تتفرغ وتستعد بأدواتك الخاصة بك، كي تغوص في بحر هذا العالم الجديد، والتجربة التي تعتبر هي أهم وأجدر التجارب التي قد تخوضها طوال حياتك، وهي تربية الشخص الأقرب إلى قلبك وعقلك، طفلك، ابنك، صديقك وريث علمك، الولد الصالح الذي يدعو لك.