من جديد تثبت المنظومة العدلية في المملكة جديتها في تطبيق التعديلات القانونية التي صدرت خلال الفترة الماضية وإنزالها على أرض الواقع، تنفيذا لما تم إقراره من إصلاحات في النظام القضائي، وسيرا على النهج الذي اختطته هذه البلاد لنفسها في مجال تعزيز حقوق الإنسان، حيث وجه النائب العام يوم الخميس الماضي بمراجعة عقوبة القتل الصادرة في وقت سابق بحق ثلاثة أشخاص ارتكبوا جرائم قبل بلوغهم سن 18 عاماً، وذلك تنفيذا للأمر الملكي الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - في أبريل الماضي، والقاضي بإيقاف تنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة بعقوبة القتل تعزيراً على الأحداث ممن كانوا قصرا ولم يبلغوا الثامنة عشرة وقت إدانتهم، وهو الأمر الذي أشادت به معظم المؤسسات القانونية الدولية والهيئات العاملة في مجال حقوق الإنسان، ووصفته بأنه خطوة كبرى في مسيرة إصلاح النظام القانوني وتعزيز حقوق الإنسان.

ولم تقتصر التعديلات على عقوبة القتل (الإعدام) بل شملت عقوبة الجلد في القضايا غير الحدية، حيث استبدلت بالسجن والغرامة، وذلك يعد خطوة إضافية في سبيل ضمان حقوق الطفل وعدم تعرضه للإيذاء.

المتتبع لمسيرة الإصلاحات القضائية التي شهدتها بلادنا في هذا العهد الزاهر يتأكد له أنها أحدثت تطوراً شمولياً على القطاع العدلي، ورسخت من مؤسسية القضاء، واستقلاله، بالإضافة إلى تحديث إجراءات التقاضي، وإصدار العديد من المبادئ الموضوعية في المسائل المتعلقة بالقضاء، وانعكس كل ذلك على تعزيز حقوق الإنسان وضمانها وترسيخها وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع، وكذلك ضمان حقوق الإنسان التي كفلتها الشريعة الإسلامية وأقرتها العهود والمواثيق الدولية، وأن الخطوات الواسعة التي تم تحقيقها جعلت المملكة في طليعة دول العالم التي تعمل على تحديث أنظمتها القضائية وتطويرها.

وفي هذا المجال يجدر القول بأن التعديل والتحديث المستمر في القوانين والتشريعات هو من سمات الدول التي تنشد استمرار التطور ودوام النهضة، ولا يعني ذلك بالضرورة وجود قصور أو خلل، لكن النظام الذي لا يراجع مسيرته بين فينة وأخرى، ولا يستصحب متغيرات العصر، ولا يمتلك أدوات الحداثة، والرغبة في الإجادة، هو نظام متحجر، لأن القوانين ومدى ملاءمتها لاحتياجات المجتمع هي المقياس الحقيقي للتطور والمعاصرة، لأنها التي تنظم حياة الناس وتحكم حركتهم وتحفظ حقوقهم وتحدد واجباتهم.

وبسبب حالة التداخل التي نعيشها في الوقت الحالي بسبب طغيان العولمة، وسريان النظام العالمي الجديد، ووجود المؤسسات الدولية التي تنظم حركة التجارة والاقتصاد والمال، فإن القوانين والتشريعات تكتسب أهمية كبرى تضاف إلى كونها حافظة حقوق المواطنين، فهي في ذات الوقت تبعث رسالة طمأنة للمستثمرين الأجانب والكوادر البشرية بأن حقوقها مصانة، وهو ما فطنت إليه قيادة هذه البلاد التي تؤكد في كل يوم التزامها بتنفيذ الإصلاحات الرامية إلى تحسين بيئة الأعمال، وتطوير البنية التحتية، وبناء اقتصاد متنوع ومستدام، وطمأنة رؤوس الأموال الأجنبية، مما جعل المملكة قبلة لكبريات الشركات العالمية التي وجدت فيها المناخ الاستثماري الآمن، والبيئة الجاذبة للأعمال.

ومن باب الإنصاف القول إن مسيرة تحديث النظام القضائي في المملكة وإن كانت قد بدأت قبل فترة ليست بالقصيرة، إلا أنها شهدت خلال السنوات القليلة الماضية تحولا كبيرا واكتسبت زخما إضافيا، وباتت عملية التعديلات القانونية أكثر سلاسة وسهولة. ومن أهمها تحويل هيئة التحقيق والادعاء العام إلى النيابة العامة، ومنحها صلاحيات واسعة وربط أعمالها بالمقام السامي، إضافة لصدور تنظيمات منها تكوين محاكم متخصصة، ودعم التغيير في درجات التقاضي، إضافة إلى إعادة تكوين البنية المساندة لتواكب أنظمة القضاء الجديدة، وتمكين المرأة من العمل في الدور العدلية، فضلا عن قرارات تنتصر للمرأة في ما يتعلق بحياتها وتكوينها وقضاياها الأسرية، كما أن هناك جانبا آخر لا يقل أهمية عن ذلك وهو أن التعديلات والإصلاحات لم تعد مجرد حبر على ورق، بل سرعان ما تجد طريقها للتنفيذ الفعلي بعد إقرارها وفق الآليات المتبعة والإجراءات المعلومة، ويعود السبب في ذلك إلى عوامل متعددة في مقدمتها توفر الإرادة لدى القيادة السياسية، والمتابعة الجادة من وزارة العدل وإيمانها الدائم بأهمية رفع كفاءة العاملين في مجال السلك القضائي وزيادة مستويات تدريبهم وتأهيلهم.

إن كان البعض ينظر إلى رؤية المملكة 2030 من جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية فقط فإن تلك النظرة تظل قاصرة وتفتقر إلى الشمولية والعمق، لارتباط كل جوانب الحياة بالشق القانوني، لأنه هو الذي يمنع حدوث الفوضى والتعديات، ويرتبط ارتباطا وثيقا بالاقتصاد والتجارة، لأنه يحدد الحقوق والواجبات. لذلك أولت الرؤية اهتماما كبيرا بترقية مرفق القضاء بما يجعله قادرا على مواكبة النمو المتسارع الذي تشهده البلاد. كذلك وضع برنامج التحول الوطني خطة محددة ومدروسة لرفع تصنيف القضاء السعودي وإثبات استقلاليته وما يتمتع به من حيادية وما يجده من دعم مطلق من المقام السامي.

لكل ذلك فإن التطور المتسارع في أرجاء مرفق القضاء كافة، يثبت أن توجه المملكة نحو تطوير نظامها العدلي هو رغبة تنبع من داخلها. وأن ما تحقق ليس هو منتهى الطموح، ولن يكون الغاية المنشودة، فالجهود مستمرة، والمساعي حثيثة لبلوغ مراقٍ أعلى، والنجاح سيكون بكل تأكيد حليفا لتلك الجهود، ما دامت الإرادة متوفرة، والغاية نبيلة، والإمكانات موجودة، والقناعة راسخة، فتلك هي عناصر النجاح ومقوماته.