انقلبت الفصائل الفلسطينية على دول الخليج في وضح النهار. كشفت عن أحقادها الدفينة. في رام الله وبحضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس تسيدت نظرية المؤامرة. فرضت نفسها وضربت بالأخوة والحكمة والسياسة عرض الحائط. كشفت عن سوداوية مقيتة كانت مختبئة في نفوس من كانت دول الخليج تنافح من أجلهم طوال عقودٍ من الزمن.

أعتقد أن هذا الأمر يُفترض أن يتجنب صفة المسكوت عنه. نقاش هذه القضية وفتح الباب على مصراعيه لتبادل الرأي شعبياً في منطقة الخليج ووضع الأصبع على الجرح بل «الجروح»، أمرٌ واجب ويستحق الكتابة والعناء. بل مُستحب. استناداً على تلك النظرية - نظرية المؤامرة - الحاضرة على الدوام في الذهنية الفلسطينية، كسر الرئيس الفلسطيني حاجز الصمت. وربما الخجل. لم يدع للحياء – على أقل تقدير – في نفسه مساحةً لمبادلته بالمواقف الخليجية. نعت صاحب القضية التي طالما كانت هاجساً أولاً للخليجيين حكومات وشعوباً، أبناء المنطقة بأسرها بـ«الجهل».

قال أبو مازن «نحن من علمنا الخليج». يُشير إلى العامل الفلسطيني في سلك التعليم بمنطقة الخليج، قبل أن تنقلب القيادة الفلسطينية على الخليج حين وقفت مع صدام حسين إبان غزو الكويت. بالمناسبة أذكر أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان يتنقل بطائرة سعودية خاصة في تلك الفترة. وانقلب وأيد الغزو العراقي للكويت.

من يفهم الترابط الخليجي الحكومي والشعبي يعي بالمطلق أن غزو الكويت يعني غزواً للسعودية. وقس على ذلك. أجد أن الحديث عن التعليم على أيدي الفلسطينيين أمرٌ قد يستحق مساحة للنقاش، والشهادات. أتذكر شخصياً الحزبية العلنية التي كانت تمارس أمام أعيننا. وربما بحقنا. فقد نقلت تلك الكوادر التي يتغنى بها عباس وطاقمة الحكومي، خصوماتها السياسية وتحزباتها إلى فصولنا التعليمية. بالكاد نجونا من الاكتواء بنارها. على الصعيد الشخصي لي تجربة مع تلك الحقبة، تخولني القول بأنني تعرضت لما يمكن أن أصفه بـ«إرهابٍ تعليمي»، كان الكادر التعليمي الفلسطيني يُخضعني له أنا وغيري. ولا زلت أعاني منه حتى الآن. وحين أسمّي ذلك «إرهاباً» فأنا أعني ما أقول. أكاد أن أجزم أن لكل فرد من مواليد مطلع الثمانينيات تجربته الخاصة مع تلك الكوادر.

وعلى الرغم من أشكال وأصناف التعذيب الجسدي واللفظي والنفسي الذي كنّا نتعرض له، كان ذلك الجيل يقتطع من مصروفه المدرسي اليومي للقضية. وبصرف النظر عن كل ما سبق، ولسد باب المنّة، فلم نتلق التعليم على يد أولئك بالمجان. هذا ما يجب أن يعيه القاصي والدانِ، حتى لا تُعاد تلك التقسيمات البكائية على هذا الموال الحزين ويُقال «علمناهم».

أعود للاجتماع الذي فضح المختصمين على اقتسام «الكعكة» الناتجة عن استمرار القضية واستبعاد أي شكل من أشكال السلام. فكاد أبو مازن أن يحمّل دول الخليج مسؤولية وعد بلفور الذي أطلق قبل مائة عام. والنكبة. وتهجير عرب الـ48. والاستيطان.

أظن أن الرجل فقد مصداقيته بالقفز على التاريخ وتحويره. وعلى القضية المركزية للعالم العربي والإسلامي بأسره من طنجة وحتى جاكرتا. منح الحق لنفسه بتقرير المصير حين قال «لنا الحق الخالص ولا يمكن أن نقبل أحداً يتحدث باسمنا. القرار الفلسطيني حق للفلسطينيين وحدهم. فنحن شعب واحد وقضية واحدة تجمعنا فلسطين والقدس والأقصى والقيامة والمستقبل المشيد بالحرية والكرامة»، وحرم في ذات الوقت دول الخليج من الحق نفسه. الحرية والسيادة في القرار. وفق هذا التصور، يفترض عباس وقادة فصائلة – التي لا تحتكم إليه – عودة دول الخليج في كل قرارٍ يُتخذ إلى رام الله.

وربما إلى غزة حيث حركة حماس «فصيل الإرهاب وعميل طهران».

على ذات الطاولة المستديرة التي اجتمعت على التناقضات والانقلابات، خرج قائد ما يسمى بـ«الصاعقة»، مُتسائلاً عن أسباب وضع إيران في خانة العداء، ومتى كانت إيران عدوةً لدول الخليج. من باب النكاية بدول الخليج أزجى الشكر لولاية الفقية على مرأى ومسمع من يراه ساسة المنطقة بذي العقل الراجح. في ذلك المشهد أقصى أشكال الصفاقة وربما الصبيانية السياسية.

لا تُلام تلك الفصائل والأفراد على التذبذب السياسي. فأعضاؤها معدومو الأخلاقيات، وبلا مبادئ ولا عقيدة وطنية ولا سياسية. البعض منهم يمكن وصفهم بـ«أمراء الحرب». المُستخلص المفيد من ذلك الاجتماع، أنه منذ سنوات لم يستطِع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل واللاحق، ولا زعماء الفصائل لا السياسية ولا المسلحة، الاجتماع على قلبِ رجُلٍ واحد. جمعهم هذه المرة الكره الدفين للشعوب الخليجية أخيراً على كلمةٍ واحدة. وهذا بحد ذاته إنجازٌ غير مسبوق.

وأنا أتحدث بلسان مواطنٍ خليجي، يمكنني القول إن على الإنسان الفلسطيني بالدرجة الأولى، والفصائل الفلسطينية – المُسلحة وتلك التي تتسم بالطابع السياسي الخالص - والتي طالما انشغلت بحرق أعلام دول الخليج وصور حكامها، وسارعت بالانبطاح للمرشد الإيراني في طهران، استيعاب أن قواعد اللعبة لدى شعوب منطقة الخليج قد تغيرت بالمعنى والمضمون.

بوصلة الاهتمامات الخليجية تحولت إلى بناء وتنمية دولها، وانصرفت أولوياتها عن قضايا لم تجنِ منها أكثر من الأحقاد والكراهية، ونعتها بالجهل والأمية. أخيراً ومن باب النصيحة لا التشفي، أقول أيضاً، انشغلوا بـ«العروبية والقومجية» وذوي الشعارات الرنانة المزيفة.

فأنتم تُجيدون فن قيادة الجموع واللعب على العواطف.

لن تحتاجوا إلا إلى القطيع والراعي. أما نحن ففهمنا أساليبكم. يصنع الحروب الأغنياء منكم والمستفيدون من القضية ليتسيدوا، ويخوضها الفقراء والمعوزون ليذهبوا إلى جحيم غدركم.

هذه سياستكم منذ الأزل. وستبقون هكذا. فانصرفوا.