لا يمكن الحديث عن أي تعاون أو تكامل سياسي دون النظر إلى نموذج الاتحاد الأوروبي كمثال حي وواضح لاتحاد الدول والكيانات الاقتصادية فيما بينها. ورغم ما يعتري أروقة الاتحاد الفترة الراهنة من بعض التصدعات والخلافات، إلا أن ذلك لم يؤثر في النسيج الأوروبي العام، وظل نموذجا فريدا في عملية التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي.

ذلك الاتحاد الذي نجح في تأسيس سوق موحدة، يعتمد على مبدأ «الحريّات الأربع» والتي تقضي بتمكين الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال من التحرّك بحريّة بين الدول الأعضاء في الاتحاد، ولهذا يعتبر أكبر تكتّل تجاري عالمي، وأكبر مصدّر للخدمات والسلع المصنّعة في العالم. علاوة على وجود عملة موحدة وكذلك تأشيرة موحدة تربط بين تلك الدول المتعددة، وبالفعل نجحت الدول خلال العقود الماضية في التحول من السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي.

إن المتأمل في نموذج الاتحاد الأوروبي يدرك حجم التكامل في المجالين السياسي والاقتصادي حتى مع وجود بعض الاضطرابات السياسية بين بعض الدول والمنظمة، إلا أن ذلك لا يلغي نجاح القارة العجوز في تقديم هذا النموذج المبهر للعالم أجمع خصوصا أن الاتحاد تمثل في عنصرين يصعب الاتفاق والتكامل حولهما!

وقد نجح الاتحاد في الحصول على جائزة نوبل للسلام عام 2012 نظير مساهمته «في تشجيع السلام والمصالحة والديمقراطية وحقوق الإنسان في أوروبا». كما أسهمت الأجهزة الإدارية التابعة للاتحاد وهي مجلس الاتحاد الأوروبي، المفوضية الأوروبية، البرلمان الأوروبي في تحقيق نجاحات كبيرة جدا على الصعيد القانوني والبرلماني والقضائي، غير أن تلك النجاحات والتي أوصلت هذه الدول من فكرة التعاون إلى مبدأ الاتحاد لم تلامس الجوانب الثقافية، فلم يبرز مشروع ثقافي موحد كما هو الحال فيما يخص العملات أو حتى وجود مشروع تعليمي إعلامي مدمج.

هذه المعطيات تعطينا مؤشرا غاية في الأهمية، وهو أن الدول الأوروبية التي رأت في مصالحها السياسية والاقتصادية مبررا أساسيا للانضمام للاتحاد وقفت صامدة ثقافياً، وكذلك الحال فيما يخص إنتاجها من القوى الناعمة من الانصهار في بوتقة الاتحاد. بل شهدنا سلوكا مختلفا من قبل الدول الأوروبية تجاه إنتاجها الثقافي الأدبي. إذ حرصت على التمسك أكثر بمحليته والحرص على إضفاء صبغة وهوية البلد تجاه جميع ما يقدم في رغبة واضحة على تبيان الاختلاف الثقافي والفكري بين تلك الدول، بل وحرصت الدول الأوروبية على جعل الاختلاف الثقافي مصدر إلهام وجذب للحركة السياحية بأن حرصت على حياة مكوناتها الثقافية والتاريخية بشكل يجعل لهوية كل دولة من تلك الدول استقلالية، وتفرد وكأنها تحمل في ثناياها رسالة مبطنة بأن الاندماج السياسي والاقتصادي لا يعني صناعة هوية ثقافية موحدة.

وبالنظر أيضا لمنتج القوى الناعمة في أوروبا من كيانات تعليمية وإعلامية عملاقة، نجد أن كل دولة امتلكت تلك الأدوات حرصت تمام الحرص على إبقائها في محيطها المحلي وجعلها واجهة للدولة وأحد أهم أدوات التأثير، دون حتى التفكير في إنشاء كيانات مماثلة على صعيد الاتحاد.

لذا وبعد مرور عقود على نشأة الاتحاد نجد أن الدول الأوروبية بشعوبها ما زالوا متمسكين بموروثهم الثقافي المحلي حتى على مستوى الأكلات الشعبية المحلية، ففي بريطانيا السمك والبطاطا وإسبانيا البايلا وإيطاليا بأكلاتها المعروفة وغيرها. ولعلنا نلحظ ذلك وبشكل واضح في الأيام الثقافية حيث يستحيل أن تقدم ثقافة أوروبا في قالب واحد، وإنما تحرص تلك الدول على المشاركة المنفردة في هذه الأيام لرغبتها في تقديم نماذج متباينة ومتعددة. الأمر ينسحب كذلك على الإنتاج الفني والسينمائي، فرغم وجود مهرجانات قارية لهذين المجالين إلا أن الفنون الأوروبية رفضت الانغماس فيما بينها ومثلت كل واحدة من تلك الفنون طيفا مستقلا يعبر عن هوية البلد ومكنونه الثقافي، وقضاياه المجتمعية الخاصة التي يتفرد بها عن باقي الدول المجاورة.