فيما مضى، وقبل هذه الجائحة التي ستمضي دون عودة قريباً بحول الله، كل مرة عندما كان يُطلب مني تنظيم عرض للاحتفال باليوم الوطني في المدرسة التي أعمل بها، تأبى الأغنيتان "منار الهدى" و"وطني الحبيب" إلا أن تكونا حاضرتين في العرض الذي سأقدمه بهذه المناسبة، ربما سيظن البعض بأني طاعن في السن وعلى وشك التقاعد لاختياري هاتين الجميلتين اللتين قاربتا على سن الـ45 سنة ونيف يوم صدرتا لأول مرة، لكني في الحقيقة أصغر عمراً من إحداهما، ولم يمضِ لي في مهنة التعليم أكثر من 10 سنين، وتفسيري الوحيد لعشقي لهاتين الفاتنتين هو والدي، حفظه الله، الذي اكتسبت منه هذا العشق لصوت طلال مداح الندي الذي لا يفارق مكتبته، ولا سيارته، ولا أنسى عشقه لأي أغنية يلحنها سراج عمر، فنشأت على هذا الغذاء الروحي العذب وانتقل إليَّ هذا الفيروس الحميد، وأبيت أن أتخلص منه حتى بعد سماعي للكثير من الأغاني الوطنية التي لا تقل أهمية عما ذكرت أعلاه.

لم أسمع والدي يتحدث عن الوطن كثيراً، فوالدي قليل الكلام في كل شيء، ولكن استماعه المتكرر لهاتين الأغنيتين بالذات جعلني أتفكر بأن الحب للوطن شعور داخلي يتجسد فيما نقدمه له من تضحيات، وأكد لي أن حب الوطن هو متعة ولذة لا توصف، وأن الاستماع لطلال مداح على سبيل المثال وهو يؤدي "وطني الحبيب" كفيل بأن يوصل لك هذا المعنى العميق.

واليوم في يوم الوطن سأعترف أخيراً بتحيزي لما عشقت أذني وما عشقه الملايين، إنهما لؤلؤتان لا تبليا مع الزمن، بل تزدادان بريقاً ولمعاناً في كل عام.

الأولى ما تغنى به الراحل طلال مداح ونقشه في قلبي وقلب والدي:

"وطني الحبيب.. وهل أحب سواه؟

في موطني بزغت نجوم نبيه.. والمخلصون استشهدوا في حماه

في ظل أرضك قد ترعرع أحمد.. ومضى منيباً داعياً مولاه

يدعو إلى الدين الحنيف بهديه.. زال الظلام وعززت دعواه

في مكة حرم الهدى وبطيبة.. بيت الرسول ونوره وهداه

وطني الحبيب.. وهل أحب سواه!".

أعترف اليوم بكل صراحة أني طماع، نعم طماع جداً في أحيان كثيرة.. هذا طبع بشري، وعندما لا أرتوي من "وطني الحبيب"، أستمع إلى "بلادي منار الهدى" التي تأسرك عندما تسمعها والتي تروي قصة حب جميلة لهذا البلد العظيم، هذه الآسرة الجميلة تمت إعادة تسجيلها بصوت المبدع راكان خالد في عام 2014 لتزداد تألقاً على تألقها، ولتخطف مزيداً ومزيداً من قلوب المحبين.

هذه الأغنية التي كانت يوماً ما نشيداً وطنياً لبلادنا، وحق لها أن تكون، هذه الأغنية التي تجعلك تقف احتراماً وإجلالاً لمن بنى هذه البلاد وأسسها على كلمة التوحيد نقف جميعاً لنحيي مؤسس بلادنا الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، ولأبنائه من بعده، الأغنية التي تحكي أمجاد أمة وبطولات رجال وتاريخ وطن.

رحل عنا "سراج عمر" ملحن "بلادي منار الهدى" قبل أشهر، لم يتسن له أن يحتفل معنا بالذكرى التسعين، ولكنه بالتأكيد معنا في كل عام حاضراً بعد أن نقش أغنيته لحناً على جدار الوطن وفي قلوبنا.

غادرنا قبله طلال مداح بأعوام مضت، ولكنه ترك في قلوبنا أثراً لا يندمل ليس أثر جرح، ولكنه أثر عاشق مر من ها هنا.

أعدك أيها القارئ العزيز بمجرد أن تستمع لهاتين الأغنيتين ستنتقل إليك عدوى عشق وهيام لوطنك، عدوى جميلة وشعور لا يوصف، أعلم بأنك تحب الوطن ولا تحتاج لأغانٍ لتذكرك بحبك لوطنك، لكني أتحدث عن فخامة الشعور ولذة الانغماس والهيام في وطن الأمجاد والمعجزات.

أتمنى أن تنتقل هذه العدوى الرائعة وتنتشر بيننا جميعاً.. لا أستطيع أن أشرح أكثر رغم كوني معلماً عجزت بصراحة.. لكن المعلم طلال مداح وغيره من الأصوات الندية قد أوصلوا الرسالة وشرحوا درس الهيام في حب الأوطان، عبر "وطني الحبيب" و"بلادي منار الهدى" على سبيل المثال، وللدرس بقية، وعَمار يا بلادي.