من يفهم قيمة العقل، يعرف أنه يجب أن يحكَّم كما يحكم الدين، لأن الدين عرف بالعقل، ومن هنا كان لا بد أن يعتمد أي اجتهاد على الدين والعقل معا، حتى يستطيع الإنسان مواجهة كل جديد يؤدي إلى ما ينفعه، وما يمكث في أرضه، دونما تجمد أو جمود على الأفكار، ودونما إصرار على رفض مواكبة مستجدات الحياة، ودونما استماع لمن يريد إغراق من حوله بالجهل والعنف والغيبيات التي تلغي العقول وتحرمها من متعة التفقه والتدبر والتفكر، والتي تمثلها تيارات ليس همها إلا تضليل العقلاء، وتغييب الناس عن وعيهم، مع احترافية كبيرة منهم في خلط الدين بالأوهام والعنف والدجل والقتل، والنتيجة زيادة دوائر الجهل، والتعصب، والتخلف بين الأفراد، وداخل المجتمعات.
يذكر أحد أهم علماء المسلمين، وهو الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه الشهير (إحياء علوم الدين)، عند شرحه لعجائب القلب، كلاما نفيسا عن الفرق بين العلوم الدينية، والعلوم العقلية، وأن الأولى مأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وبالتعلم لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الثانية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجاً إليها، وأن الداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، وأن العلوم العقلية كالأغذية، والعلوم الشرعية كالأدوية، وأن ظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة، ويقول إن مثال هذا الظان، هو مثال الأعمى الذي دخل دار قوم، فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق، لم لا ترد إلى مواضعها؟، فقالوا له: تلك الأواني في مواضعها! وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك، فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك.
أختم بأنه ليس لدي شك في أن أولى الأولويات، التي ينبغي التركيز عليها، في هذا المجال، هو تحرير الأجيال من التخلف الفكري، والتردي العقلي، وإزالة الضبابيات، والغشاوات، حتى يقف الناس على حقيقة دينهم، وفهم دعوته إلى الصفاء والنقاء والتقدم والرقي، وإلى ترك الخصومات الجانبية، وخصوصا مع العقل.