أمضيت بعض الوقت الممتع مع كتاب مثير في بلاغته وفصاحته، ذي لسان تراثي أصيل مع لمسات حداثية في اللغة، لكنها سلفية في الدلالة والمعنى، يشدك بلغته الأدبية مهما انشغل بالصناعة الفقهية، تكاد روح المؤلف تنطق عن أديب عميق بارع أكثر من نطقها عن أصولي فقيه، فما أشغلني في الكتاب يكاد يكون في سياقاته اللغوية لإيصال المعنى، فسياقه أدبي جميل حد الفتنة، وقد فتنني جمال المفردات ونحتها التراثي عن طبيعة تطبيقاته الممعنة (أحياناً) في (تقليديتها) وعدم قبولها للآخر، لكن القارئ لا يلحظ هذا بسبب الأدب الرفيع واللغة الكلاسيكية، كأنما لو كنت في أحد حلقات جامع قرطبة في ازدهار الأندلس.

اسم المؤلف مشاري بن سعد بن عبدالله الشثري، بلا ألقاب وضع على الغلاف شذرات من كلام أبي العلاء المعري، ورد فيها لفظ (الغمرات)، فكان اسم الكتاب (غمرات الأصول/‏ المهام والعلائق في علم أصول الفقه) وقد ختم الكتاب بقول شيخ المعرة (أرى غمرات ينجلين عن الفتى، ولكن توافي بعدها غمرات...).

وبحكم تخصصي الشرعي قبل ربع قرن (بكالوريوس شريعة) فما زلت هاوياً قراءة ما يلفت النظر في علم أصول الفقه، لإيماني العميق (بانفتاح العلوم) على بعضها، رغم معارضة المؤلف لتداخل علم أصول الفقه مع علم الكلام والمنطق، لكنك تجده قد رجع في مصادره إلى خارج المألوف أيضاً في علم أصول الفقه.

قادني الفأل الطيب لهذا الكتاب فكانت متعتي مع هذه اللغة ومع هذا الانفتاح (الخجول) على مصادر لا يعتادها بعض أهل صناعة (أصول الفقه) التقليديين من (متعصبي المذاهب)، فكان من (جريدة المصادر) كما يسميها المؤلف كتاب (دروس في علم الأصول، محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، ط3، عام 1430)، وكتاب (رسالة أبي حيان في العلوم، أبو حيان التوحيدي، مكتبة الثقافة الدينية)، وكتاب (سيرة حياتي، د. عبدالرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1 عام 2000)، وكتاب (عَلَم الجذل في علم الجدل، الطوفي تحقيق فلوفهارت هاينريشس، دار النشر فرامز شتاينر بفيسبادن، 1987)، (كتاب في أصول الفقه، محمود اللامشي الحنفي الماتريدي، تحقيق عبدالمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1995)، وكتاب (معجم الأدباء، ياقوت الحموي، تحقيق د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1993)، وكتاب (المقدمة لابن خلدون) وكتاب (وجهة نظر، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 2011).

وقد شعرت بمركزية الشافعي في قلب المؤلف رغم حنبليته، فراودني سؤال قديم عما أشار إليه محمد أبو زهرة من (أن الإمام أحمد من تلاميذ الشافعي، ويذكره ابن السبكي في طبقات الشافعية)، وكان ذلك ص32 من كتابه (ابن تيمية /‏حياته عصره) وقد وضعت ملاحظة للتأكد مما نسبه أبو زهرة للإمام السبكي من أنه يعتبر أحمد بن حنبل من طبقات الشافعية، ولم أرجع إليه وأستذكره حتى ظهر لي أن أحد مصادر مشاري (طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، تحقيق د. عبدالفتاح الحلو، د. محمود الطناحي، دار هجر، ط2، 1413)، فهل ما ذكره أبو زهرة صحيح أم لا؟ لأني لم أرجع إليه، فما زلت طالب علم بالمعنى المادي التاريخي، وأقصد بكلمة العلم وتاريخ كلمة (عالم) ما ذكره توبي أ. هف في كتابه (فجر العلم الحديث) ترجمة محمد عصفور ص 37 والتي تليها فليرجع إليه، ولا أقصد المعنى الذي يتقاطع مع معطيات لم يستخدمها حتى الصحابة الكرام في وصف بعضهم، (عالم) وإن استخدموها فهي لا تتجاوز المعنى التقني فقط دون أي دلالة تبجيلية مقدسة تصل إلى صناعة عنوان طموح جداً مثل (إعلام الموقعين عن رب العالمين)، فالأمر عندي أقل طموحاً، وأكثر بشرية من أن أوقع عن غيري ولو كان ولدي، ولهذا عشت طوَّافاً بالمعرفة الإنسانية شاكراً لكل المترجمين بكل اللغات إقالتهم عثرتي في أحادية اللغة، وشاكراً لكل مميز في طرحه الجديد على مستوى الفكرة أو اللغة أو زاوية النظر في أي مجال من مجالات النظر الميتافيزيقي أو الفيزيقي، وقد أثارني الكتاب في محاولاته الخجولة جداً للانعتاق من إسار التقليد مع مخالفة الحداثة بلغة أدبية رفيعة لا تستثير الحفيظة، وإن كانت في أحد أوجهها تشير إلى استنكار عقائدي مضمر ص72، رغم ما في روحه من نفحات صوفية ظهرت ص 110 تحت عنوان (كشوف الإيمان/‏المخزون الإيماني للناظر) مستشهداً في ذلك بأقوال ابن تيمية، ليخرج بذلك من دائرة (العرفان الصوفية) ليدخل دائرة (العرفان التيمي/‏نسبة إلى ابن تيمية) (عند البعض يجوز لابن تيمية ما لا يجوز لغيره!!) رغم أن المسألة تحتاج إلى بحث يمكن قياسه، ومسائل التقوى والإيمان لا يمكن قياسها فالحديث عنها فائض عن الحاجة ويدخل في باب الرقائق والوعظ.

الكتاب ممتع ولغته رفيعة لذيذة فكأنما أنت مع أدباء العصر العباسي وفقهائه، ومهما اختلفت مع المؤلف في بعض تفاصيله، إلا أن وراء هذا الكتاب (قلب أديب متطلع) يستطيع النظر بهدوء لأبعد من مألوفه وعادة من حوله، لكنه يعيش حدود (البرواز)، ويكفي أن فيه بعداً إنسانياً عندما استفتح كتابه بإهداء إلى (والدي الجليلين، أختيّ الكريمتين، أهدي إليكم هذا الكتاب).