تقوم الطائفية في أهم أبعادها على المخيال الذي تُكوّنه كل طائفة عن الأخرى وعلى المظلومية التي تختزلها كل طائفة عن نفسها، والمخيال والمظلومية تشترك فيهما جميع الطوائف؛ لتشكل العقل الطائفي الذي يحكم وعي الطائفة ويحدد تصرفاتها وسلوكها في التفاعل الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي، ويصف عالم التحليل النفسي الفرنسي جاك لاكان المخيال بأنه مستودع الصور والتمثلات والرموز والحكايات والأساطير التي تشكلت تأريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن كنتيجة لعملية التأويل التي تُحاول الجماعة بها رسم واقعها الداخلي والخارجي مع الآخر، والمظلومية تُشير إلى تلك التصورات التي تتبناها الجماعة وتعتقد أنها ظُلمت على أساس ديني أو سياسي أو عرقي أو مناطقي لفترة من الزمن من قبل فرد أو جماعة.

والطائفة بوصفها جماعة من الناس يجمعهم مذهب أو رأي أو فكر أو تراث يمتازون بـه، سواء كانوا في حدود جغرافية واحدة أو في مناطق متعددة، فإن قادتها يضطرون إلى الحفاظ على مكتسبات الطائفة وتماسكها وترابط أفرادها وقوة الانتماء إليها من خلال تأصيل الطائفية فيهم بالمخيال والمظلومية اتجاه الآخر، سواء كان دولة أو مجتمعا أو طائفة أخرى أو حربا أهلية أو تحولات فكرية أو وحدة وطنية.

وسلاح الطائفة الوحيد للدفاع عن نفسها في وجه الآخر عند الأزمات والصراعات هو الطائفية، التي تُحافظ على بقائها مُتماسكة في وجه ما تعتقد أنه يهدد وجودها، ويُشتت وحدة مصالحها ويُذيب عناصر جماهيرها في نسيج المجتمع الوطني، فتتخذ من التأريخ وشخصياته وإشكالياته وأخطائه وظلمه وتداعياته مصدرا لصف الوحدة والاتصال بالحدث وكأنه وقع بالأمس القريب، وتبحث في أمهات الكتب والمراجع الدينية والتراثية عن ثغرات الآخر لتسقطه وتُعلي من شأن مصادر فكرها وأصالة أيدولوجيتها، كما أنها تعتبر الماضي ركيزة في مسيرة الحاضر، وأن المرجعية الدينية في فهمها المنطلق الوحيد لأي حوار أو توافق وطني في بناء المجتمع.

وتنشأ الطوائف نشأة طبيعية في ظل تخلف الوعي الاجتماعي والديني والسياسي عن مواكبة المعاصرة في حياة المجتمع وتلبية احتياجاته، والتي هي أحد أبعاد التخلف الحضاري لأي أمة، ولا يُمكن مُعالجة هذا التخلف إلا من خلال العمل على إعادة بناء الوعي الفردي من خلال استقلاليته كوحدة فاعلة في نسيج الجزء نحو الكل والذي يمثل علاقة تكاملية، فالطائفة وحدة فكرية مذهبية تدعم الوحدة العامة في جسد الأمة لا أنها تحاول الانفراد والانفصال عنها نفسيا واجتماعيا وفكريا نحو الطائفية، وتأصيل منهجها كذات مستقلة تقوم من حيث لا تشعر بجهل أو بتعمد على إشعال الصراع مع الطوائف الأخرى ونفي الآخر من أجل تأكيد وجودها وإثبات ذاتها.

إن مجتمعاتنا العربية اليوم أمام خيار تبني الطائفة كمكون داعم في مشروع الإصلاح الوطني نحو بناء الدولة الحضارية التي تجمع طوائف متنوعة تنسجم في وحدة الهدف وتختلف في الوسائل المؤدية إليها، وتتجنب الوقوع والانزلاق في الطائفية البغيضة والانتماء إليها، وأنه يتوجب على كل طائفة أن تستبعد من أدبيات خطابها الاجتماعي والديني والسياسي كل ما يُقلق الآخر نحو هدم جسور التواصل لبناء الدولة الوطنية الحديثة الشاملة والجامعة في الحقوق والواجبات لجميع شرائح المجتمع مهما كانت توجهاتهم وأفكارهم الشخصية، والتي يكون جميع أفرادها تحت مظلة الوطن وقيادته، وتكون الطائفة والطائفية علامة فارقة في تجلياتها الوطنية.