وقع بين يدي قبل أيام كتاب «الأعمال الشعرية الكاملة» للشاعر الفرنسي شارل بودلير، أحد أهم شعراء الحداثة الأوروبية، وصاحب الأثر الأكبر في كل شعراء الحداثة في العالم العربي، حتى تخال أن كل ما كتب في شعر الحداثة العربي ليس إلا ترجمة لشعر شارل بودلير.

قرأت قصائد متفرقة من الكتاب ووجدت الذاكرة تعيدني لقصائد رواد الحداثة العربية، فالتشابه كبير جدا يصل إلى درجة التقليد والمحاكاة، وأصبح بذلك تراث الأدب الأوروبي مرجعية لشعر الحداثة العربي، وهذا ما جعله يعيش في غربة عن الواقع العربي المعاش، وبعيدا عن هموم الناس ويفقد قدرته على الوصول بسبب مغامراته الشكلية وتحوله إلى لغة غامضة وغير مفهومة، وقد يكون تأثره بالشعر الأوروبي عاملا مهما لهذا الغموض الذي يتصف به شعر الحداثة العربي.

إن قراءة قصيدة لأحد رموز الشعر الحداثي في العالم العربي، ستجد أنك أمام تراث وأساطير ورموز دينية لا علاقة لها بالثقافة العربية، سيزيف وسبارتاكوس وتموز وعشتار وأدونيس وأبوللو وربة الزهر واليعازر وبابل ويهوذا، وكلها رموز دينية وأساطير مرتبطة بتراث أوروبا الأدبي والديني، ولا يوجد لها تأثير عميق في نفسية المجتمع العربي، وهذا أحد المآخذ على شعر الحداثة العربي الذي أخرج القصيدة من تراث الثقافة العربية وأدخلها في تراث الثقافة الأوروبية العقلي والروحي والإبداعي، وهذا قد خلق فجوة كبيرة بين الشاعر والجماهير التي عجزت عن التفاعل مع هذا النوع من الشعر.

إن القصيدة لا يمكن لها أن تفلت أو تتملص من تراثها الثقافي، سواء أكان تراثا عربيا أو أجنبيا، كما أنها لا تستطيع الإفلات من الواقع المرحلي الذي يعيشه الشاعر، فالتراث أحد مصادر الإلهام الرئيسة ووجوده مهم للتعبير عن الواقع والمستقبل، وإذا لم يحضر التراث فإن عملية التجديد ستكون ناقصة بل ستعجز عن الانطلاق، لذلك عندما يخرج الشاعر عن تراثه وتاريخه وثقافته فإنه سيدخل بصورة لا واعية في تراث وتاريخ أمم أجنبية، وبالتالي فإنه سيقع في فخ التبعية الثقافية، في حين يظن الشاعر أن ما يمارسه تجاه القصيدة يقع في خانة التجديد والمعاصرة. القصيدة تجدد نفسها تلقائيا بناء على العصر الذي تعيشه، وقد مر الشعر العربي بمراحل تجديدية متعددة تفاعلا مع مستجدات الواقع، فقد كانت قصائد أبي تمام وأبي نواس والمعري وابن خفاجة تمثل تفاعلا حيويا مع العصر ومستجداته، وكانت قصائد تجديدية بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن شعرهم التحديثي كان ينطلق من التراث العربي ويتفاعل داخل بوتقة الثقافة العربية ولم يخرجوا القصيدة العربية من ثقافتها ويقذفوا بها في أحضان أي ثقافة أجنبية.

إن الحديث عن قضايا كالأصالة والمعاصرة والتقليد والتجديد يغفل قضية في غاية الأهمية، وهي قضية التبعية الثقافية التي تختبئ تحت لباس التجديد وترفع شعارات المعاصرة، ولكنها على مستوى الممارسة الحقيقية فهي ليست إلا تشتيتا وإحساسا بالضآلة والدونية أمام الآخر وثقافته ولدتها في شعر الحداثة، لدينا ما يعرف بعقدة الخواجة كما يسميها إخواننا المصريون.

نحن نرتكب خطأ جسيما في اعتبار كثير من الشعراء الجدد (شعراء حداثة) لمجرد إهمالهم الوزن والقافية، فالتحرر الشكلي لا يعد كافيا لتكون القصيدة حداثية ويكون الشاعر مجددا، ما لم يتخذ من ثقافته الأصلية منطلقا نحو الأمام، وليس للوقوف على أطلالها والتغني بها. فالقصيدة العربية بداية بالعصر الجاهلي ونهاية بالعصر الأندلسي، كانت تتجدد تلقائيا مع مستجدات العصر وتبدلات المجتمع، وما يتمخض عنه من تلاقح بين الثقافات والشعوب المنضوية تحت الثقافة العربية المهيمنة آنذاك، والتجديد في تلك الأزمنة يختلف جملة وتفصيلا عن التجديد اليوم الذي ارتبط فيه الشعر العربي (الحداثي) بالثقافة الغربية بصورة استلابية، فعجز عن إحداث روح جديدة في الشعر تستمد أصالتها من الموروث وتستوعب رؤية العصر ومضامينه.