أختتم هذه السلسلة من المقالات حول مُقومات الصحة النفسية بالحديث عن دور المُجتمع العام ومُجتمع العمل بشكل خاص في تنمية وتعزيز الصحة النفسية. يقضي الإنسان جزءا من وقته مُنفردا بنفسه، وجل الوقت المتسع يُعيشه في النسق الاجتماعي العام وفي أماكن العمل، من هنا فالأهمية بالغة لدور المُجتمع العام ومُجتمع العمل في تنمية وتعزيز الصحة النفسية من جانب وفي نشأة الاضطرابات النفسية وتفاقم سيرها، لتصون تلك الاضطرابات وتحافظ عليها حتى لو كان الشخص يخضع للعلاج النفسي.

تجتمع الأسر، لتكون ما يُعرف في السياق الاجتماعي بالمُجتمع المحلي، يمتد الأمر ليشكل المُجتمع العام، الأفراد هم أعضاء المٌجتمع المحلي والعام بتنوع «بائن» في خلفيتهم الفردية ومداركهم وسماتهم وخصائصهم الشخصية ومدي فعاليتهم، لتكوين «تجمع اجتماعي»، مثل هذا التباين المُشكل للتجمع الاجتماعي، يُمثل ضغطا اجتماعيا «Social Stress» رهيبا، كونه يُنشئ ما يُعرف بالتأثير الاجتماعي «Social influence» من حيث تشكل السلطة والتأثير والقوة والجاذبية والتحيز والتمييز والتنوع والعزل والإقصاء الاجتماعي والفروق والمُستويات الاجتماعية «Social Status» والاتجاهات الاجتماعية والتفضيل الاجتماعي، تُمثل هذه السياقات الاجتماعية مصدر ضغط على الأفراد بشكل عام لا يمكن تجاهله وليس بالإمكان تجنبه ومن المُستحيل أن يعيش الإنسان بمعزل في صومعة في رأس جبل، تختلف استجابات الأفراد لمثل هذا الضغط الاجتماعي وفقاً لمستوى توافقهم النفسي المُسبق والمُرتبط مُباشرة بخلفياتهم الفردية والأسرية ومُستوى تنمية وتعزيز الصحة النفسية لديهم في بعدها الفردي والأسري، كما أسلفت في مقالات سابقة، ينقسم الأفراد هنا إلى قسمين؛ أولهما من كانت لديه مناعة نفسية عالية في بعده الفردي والأسري، فهناك استجابة من ناحيته لا شك لهذا الضغط الاجتماعي ولكنه يمتلك من المهارات ما يساعده للتخلص من أدران ذلك الضغط الاجتماعي وتسانده في شق طريقه عبر أمواج هذه السياقات الاجتماعية ومع هذا فهناك حاجة ماسة للمزيد من جرعات المناعة النفسية لكثرة الفيروسات الاجتماعية المُحيطة؛ وثانيهما من كانت مناعته النفسية هشة وفي حدها الأدنى، لا شك أن تأثير الضغط الاجتماعي عليه كبير جدا وقد يُفضي لمُعاناة نفسية فردية، لتستمر حدتها وشدتها وتسوء جودة الحياة طالما الضغط الاجتماعي قائم. في ذات الوقت هناك وجه آخر ذات طبيعة خاصة للضغط الاجتماعي لمن قد يُعاني أزمة نفسية أو صحية أو حياتية أو مسلكية، ليشكل ما يُعرف بوصمة العار «Stigma» والمتبوعة بنبذ وإقصاء اجتماعي للمزيد من المُعاناة، لتقود لإعاقة اجتماعية، من هنا كانت الحاجة ماسة لبرامج تنموية للصحة النفسية وتعزيزها في السياق الاجتماعي بهدف المحافظة على أفراد المُجتمع أسوياء وسعداء، لجودة حياة يستحقها الجميع ولمُجتمع معافى وسليم وآمن وحيوي وفعال وأمة طموحة، كما ورد في رؤية هذا البلد العظيم 2030.

في المُقابل تمثل بيئات العمل نوعا من الضغط النفسي «Workplace Stress» لا يقل أهمية عن الضغط الاجتماعي من حيث كمية وحجم العمل وتحمل المسؤوليات وتوزيعها ووجود الكفاءات المهنية ذات الصلة بطبيعة العمل والترقيات والتنافس والعدل الوظيفي والمُساواة وتحديد الوصف الوظيفي بدقة وبرامج التعزيز والمُكافآت ووضوح المسار والتطوير والتدريب إلخ. يُشكل الجميع مصدر ضغط نفسي شديد في حالة ضعف مناعة الشخص النفسية وفي حالة سوء مكان العمل وسيطرة الجوانب الشخصية والبعد عن المهنية وانعدام السياسات والإجراءات والأدلة التشغيلية. من هنا كانت الحاجة ماسة لبرامج تنموية وتعزيزية للصحة النفسية بشكل عام والصحة النفسية المهنية بشكل خاص وبرامج ذات صلة بالتعامل مع الضغوط وتحسين مهارات التواصل العام والتواصل التنظيمي والاجتماعي لبيئة عمل آمنة ومُنتجة.

في ختام هذه السلسلة من المقالات لمُقومات الصحة النفسية في بعدها الفردي والأسري والمُجتمعي والمُؤسساتي، أختم بعبارة أن «الحياة جودة والجودة تُصنع» وإن برامج تنمية الصحة النفسية وتعزيزها تفوق في الأهمية وتسبق برامج العلاج والتأهيل، فلا ننتظر الناس تمرض، لنتباهى بوجود العيادات والمراكز التخصصية والمصحات ووفرة عدد الأسرة ووجود أحدث الأدوية إلخ، يجب التركيز على برامج التنمية والتعزيز بقطاع الصحة النفسية، ليمتد الأمر ليشمل صحة البدن والمُجتمع وسلامة البيئة، للجميع مطالب أساسية تتفق وتطلعات الدولة المُباركة وتلامس احتياج الجميع.