أجيال سعودية كل جيل يسلم الراية للذي يليه، والجيل المعاصر للحظته الثقافية الراهنة تلك يواصل المسيرة، مستصحبًا سلفه الرائد، في كل حركاته وسكناته، لتستمر سيرة الرواد بلا انقطاع، حية في ذهنية الثقافة الوطنية.

وحينما يبلغ الأديب مرتبة الريادة، تبدأ مسيرة جديدة هي الأروع، والأكمل في مسيرته، وهي تسليم المهمة لجيل مثقف صاعد، عبر التلاقح والتلاقي في المناطق المشتركة بين الأجيال، وعبر الخلاصات المركزة من العبر والدروس والتجارب.

ومن هنا نجد أن المرأة السعودية نهضت بنفسها تعليميًا بمساعدة الرواد الكبار من المسؤولين، ومن المثقفين والعلماء، بشكل ملفت من بدايات الستينيات (الثمانينيات الهجرية)، وحتى اليوم، واجتازت صعابا جمَّة، وتقدمت في الحياة، بخطىً متسارعة، وأثبتت لنفسها ولمن حولها وللعالم، أنها أهل للمسؤولية، وحمل الأمانة، والانطلاق في عملية تسريع التحضر والتقدم والرقي.

والمرأة السعودية اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أيده الله-، فاجأت الجميع، وظهرت بمظهر الند والكفء، لكل المهام والقضايا والمسائل التي تصدرت لها، ولم يكن هذا العلو والظهور المشرف اتفاقًا أو نتيجة ظروف سمحت وسنحت لها بالظهور فظهرت، وإنما كانت نتيجة علم وتعلم وبذل جهد لإثبات الوجود، وأثبتت أن لديها من الكفاية ما يجعلها تنهض بجلائل الأعمال.

ورغم هذا الأمر، فإنني لست متفائلًا بشكل كبير بمستقبل الثقافة النسوية السعودية على الأمد القصير، من جهة الكم، في ظل ما تشهده الساحة الثقافية السعودية اليوم، من تطور كبير، فما زالت المثقفات والأديبات السعوديات، قليلات العدد مقارنة بالأكاديميات والإعلاميات، ولا يعني هذا خلو المجالين الأكاديمي والإعلامي النسوي في السعودية من مثقفات. كلا! ولكن العدد قليل جدًا، مقارنة بالأدباء والمثقفين من الرجال.

وما زال خطاب المرأة السعودية الأدبي والثقافي، يعاني انسدادًا كبيرًا، من جهة المسموح والممنوع في الطرح الذي فرضنه على أنفسهن، وأظن أن هذا المعضلة ستستمر أمدًا غير قصير، فما يجرؤ عليه المثقف أو الأديب الرجل، لا تجرؤ المرأة على طرحه بذات الشفافية، وذات الوضوح، وذات الشجاعة، إلا من وراء اسم مستعار في وسائل التواصل الاجتماعي، هذا إن تجرأت في الأساس. وعلى العموم لهذه الهموم مقالة أكثر تفصيلًا، في القادم من المقالات.

بين يدي نصوص أدبية، كتبتها الأديبة الشابة سارة بنت خالد، بعنوان: (بين العاشرتين، 2019)، وهي نصوص كما وصفتها الكاتبة في مقدمتها: «جمعتها بعشوائية تامة، بلا ترتيب معين، لم أرتبها بحسب التاريخ ولا بحسب ترابط الأفكار؛ لأني على أرض الواقع -كأي إنسان- تأخذ الفوضى مني نصيبًا كبيرًا، وتتقلب مشاعري وأفكاري باستمرار، لا تتدرج تدرجًا منطقيًا، بل تدرجًا طبيعيًا، بشريًا، فطريًا».

الجميل في نصوص «بين العاشرتين»، أنها قالت للمحيط الثقافي، أنا هنا، ولدي ما يقرأ، والخطوة الأولى في النشر والانتشار، هي الخطوة الأهم، والأبلغ، خصوصًا إن كان ما قد نُشر، يستحق القراءة والاهتمام، وهذا هو واقع، نصوص: «بين العاشرتين».

تميزت النصوص، بحس شاعري، ولغة متينة، سالمة من المعايب، والحشو الزائد، تراوحت بين ما يمكن أن نطلق عليه: القصة القصيرة، والقصيرة جدًا، وبين الخواطر الأدبية التي تلامس الوجدان، مع غالب تقلبات النفس البشرية المستمرة والدائمة.

وسأورد بعض اللقطات، من «بين العاشرتين»، انتقاءً عشوائيًا، لا يرتكن إلى قاعدة:

«عندما أكون في أمس الحاجة، أبحث عن غيري، وعندما لا أجد أحدًا أدخل في صراع بيني ونفسي، ربما لأن العين لا ترى نفسها دون مرآة». وتقول في موضع آخر: «عينان لا تكفيان، وقد لا تبصران كما يبصر الصديق، أو كما يبصر القلب بعيني الصديق». وتقول تحت عنوان: (معركة نائمة): «كوب عاشر من القهوة، أو هكذا يبدو لك بعد أن أقلعت عنها، جرعة من الكافيين، تحسبها جرعة يقظة، تخوض بها معركة ضد غفواتك، بكل شجاعة وغباء، فمن يغلب النعاس إلا النوم نفسه». وتقول تحت عنوان (حزين): «الحزن كائن فوضوي، هادئ كهدوء ما قبل العاصفة، ولكنه أهدأ منها، فعلى الأقل ذاك الهدوء يثور الطيور والقطط وبعض الكائنات وكأنها تنبئنا بكارثة، ولكن الحزن هادئ ماكر خبيث لا يظهر لك رأس ناب من أنيابه، وينقض عليك في غفلة منك، وفي ضعف لم تكن لتلحظه لو لم تكن وحيدًا أو على الأقل تستشعر الوحدة. الحزن مشوش ولكنه ناصع واضح صريح مخلص جدًا، ويبالغ في إخلاصه.»، وتقول تحت عنوان، (مبدأ اجتماعي):«أصبحت لا أؤمن بحقيقة المبادئ وخاصة الثابت منها، فمن منا لم يغير مبدأ واحدًا على الأقل منذ أن بدأ بوضع مبدئه الأول؟ لو تأملنا قليلًا لوجدنا مبدأ الفرد أقوى من مبدأ الجماعة، فالفرد وحده يتحكم بمبدئه، ولكن للجماعة ألف محرك، وكل منهم يعمل بإيمانه، ومتى تزعزع إيمانه بمعتقده فقدت الجماعة دعمه حتى يقل أفرادها عن نصفهم، فتعود مجددًا بلا مبدأ».

إن الاحتفاء بالبدايات والتجارب الأولى لأدبائنا، وأديباتنا، هو خير ما نقدمه لمستقبل الثقافة والأدب والفكر في المملكة العربية السعودية، من اليوم وحتى عشر سنوات قادمة، أو أكثر، ستكون هذا البدايات أساسا متينا لمسيرة أدبية حافلة بالإنجاز والنجاحات المتراكمة، لكل من احتفينا به اليوم وقلنا له هذا مكانك بين مبدعي الوطن، وهذا واجب على كل قادر لنشر وإفشاء إبداع السعوديين والسعوديات.