هل من علامات الضعف أن أظهر جهلي أو قلة علمي بموضوع ما بغض النظر عن مجاله؟ هل يجب عليّ لكي أحصل على تقدير وإعجاب مَن حولي أن أفعل شيئا مثيرا للإعجاب بأن أظهر مثلا كالعلاّمة! وإن لم أفعل فهل هذا يجعلني أقل قيمة كإنسانة؟ للأسف الأمر بالنسبة للكثيرين يبدو أنه كذلك! بالتأكيد مرت عليكم مقاطع عن بعض الأفراد ممن حينما تم سؤالهم عن أمر من الواضح أنهم يجهلونه، لم تسمح لهم أنفسهم بأن يعترفوا بأنهم لا يعرفون؛ ربما خوفا من نظرة الغير إليهم أو إفراطا في الثقة الزائدة، ولهذا قاموا بالشرح والإسهاب مما جعلهم يظهرون كالحمقى ومادة دسمة للتداول والضحك!.

فوَا عجبا كم يَدَّعي الفضلَ ناقصٌ ... ووَا أسفا كم يُظهِر النّقصَ فاضلُ

الآن لماذا فعلوا ذلك؟! لأننا للأسف نعيش في عالم يجعلنا نشعر إذا قلنا «لا أعرف» أو «ليس لدي رأي حول هذ الأمر أو ذاك» يُنظر إلينا على أننا غير مثقفين أو ضعفاء، أو ربما متكبرين نرفض المشاركة بالمعلومة بادعاء عدم المعرفة! لكننا في واقع الأمر ننتمي إلى مجتمع إسلامي يثني على التواضع والاعتراف بالذي لا نعرفه، على الأقل في مسائل قد تسبب ضررا إن كانت غير صحيحة، وهنا يعتبر الاعتراف بعدم المعرفة علامة قوة وليس علامة ضعف، لأنه ليس إظهارا للجهل، بل هو إظهار العلم الكافي بوجود عدم المعرفة. وقد قالها من قبل سقراط «توجد المعرفة الحقيقية في معرفة أنك لا تعرف شيئا». وجاء عن بعض علمائنا: قولُ «لا أدري».. نصفُ العلم.

فقل لمن يدّعي في العِلم فلسفةً .. حفظتَ شيئًا وغابت عنك أشياءُ

إن الثقة المفرطة هي واحدة من أقوى التحيزات المعرفية لأنها موجودة في كل مكان، وتؤدي بنا إلى إصدار أحكام وقرارات مهمة دون مستوى مقبول من المراعاة أو الاعتبار، في عالمنا الحديث اليوم نجد أن المعرفة قوة، والمعلومات سلعة يتنافس عليها الكثيرون، وبسبب التقدم في العلوم والتكنولوجيا لدينا رعاية صحية أفضل، وأنظمة اتصالات عالمية أسرع، وتنوع في كل المنتجات الحيوية والكمالية، وكل ذلك من أجل التوسع في سبل الراحة والاستمتاع! نعم قد تكون المعرفة خدمتنا جيدا، ولكن من جهة أخرى قد شكلت خطورة في التضخم في تحديد التخصصات والمختصين والثقة الزائدة التي تطرح بين أيديهم، وبالتالي نجد زيادة في الاعتماد المفرط على هؤلاء المختصين أو الخبراء، والناتج غطرسة وثقة بالنفس أدت إلى كثير من الكوارث. لقد قال مارك توين ما معناه؛ إنه ليس ما لا تعرفه هو ما يوقعك في المشاكل، بل ما أنت متأكد من أنك تعرفه.

لقد سئل الدكتور داني كانيمان، الحائز على جائزة نوبل، عما يريد أن يقضي عليه في هذا العالم إذا كان لديه عصا سحرية، فأجاب بكلمة واحدة «الثقة المفرطة»، فبالنسبة إليه نحن عُمي تجاه عمانا، كوّنا فكرة ضئيلة جدا عن مدى صغر حجم معرفتنا، وليس لدينا اهتمام أو تصميم حتى على معرفة مدى ضآلة ما نعرفه! في دراسة قام بها أشرف لبيب ومارتن ريد (2013) تم فيها إلقاء اللوم على الثقة المفرطة في غرق السفينة تايتانيك، والحادث النووي في تشيرنوبيل، وفقدان مكوكي الفضاء تشالنجر وكولومبيا، وأزمة الرهن العقاري عام 2008، والركود الكبير الذي أعقبها، وانسكاب النفط في ديب ووتر هورايزون في خليج المكسيك، ضمن أشياء كثيرة أخرى، كما أن الثقة المفرطة، ومن واقع تجارب عايشناها وقرأنا عنها في الصحف، تسببت في كثير من الكوارث المالية والشخصية وعلى مستوى مؤسسات مصرفية وغيرها، وتسببت أيضا في انهيار علاقات ودمار أسر وإزهاق أرواح!.

بالمقابل قد نجد أن معرفة الفرد بأنه لا يعرف، قد تكون نعمة كما وصفها الحائز على جائزة نوبل محمد يونس حين وصف مدى أهمية عدم معرفته بالخدمات المصرفية حيث قال إن: «عدم معرفة شيء ما يمكن أن يكون نعمة في بعض الأحيان. أنت منفتح، يمكنك القيام بالأشياء بطريقتك دون القلق بشأن القواعد والإجراءات.. يمكنني المحاولة لأنني لم أكن أعرف أي شيء»، إذًا كيف نصل إلى هذا المستوى من الحكمة؟ بأن يعرف الفرد قدر نفسه؛ أي قدراته وحدود معرفته ويتصرف بناء على ذلك، الحكمة تكون حين تحاول، تحلل، تفكر، ولكن في نهاية اليوم، قد تصل إلى أن الفهم الكامل بعيد عن متناولك، مثلا عندما نقرأ القرآن الكريم تمر علينا آيات لا نفهم السبب خلفها، نريد أن نعرف لماذا أو كيف؟ ولكن الإيمان الكامل أحيانا هو أن ننفذ أوامر الله ـ سبحانه ـ لأنه خالق الخلق وهو أعلم بالأسباب، قد لا تظهر لنا في حينها، وقد تظهر لمن هم بعدنا، بما أن القرآن للأزمان كلها: الماضي والحاضر والمستقبل، وقد لا تظهر أبدا، إنها طرق رب العالمين المخفية عن البشرية جمعاء وضعت لبقائهم وسخرت لهم، الحكمة ليس في أنك تعرف، الحكمة هنا هو أنك تعرف أنك لا تعرف وعلى الرغم من ذلك تؤمن.

يجب علينا الابتعاد عن الثقة المفرطة والاعتقاد بالفهم ومعرفة كل شيء حتى لا نظهر كالحمقى الذين يعتقدون أن لديهم كل الإيجابيات! هذا لا يعني ألّا نحاول أن نفهم، ولكن حين لا نصل إلى ذلك لا يعني أنه إذا لم نفهمه أو لم تتضح لنا الأسباب خلفه أننا جهلة أو أغبياء! لندرب ألسنتنا على مقولة «لا أعرف»! فقد يدفعنا هذا إلى أن نفكر أكثر ونتوسع في البحث، ونحاول أن نكتسب الحكمة والتوصل إلى الحقيقة، لكن يجب أن نعترف أولا بأنه لا يمكننا الحصول دائما على إجابات لكل شيء، وستبقى هناك أشياء لا يمكننا فهمها، وهذا أمر طبيعي وليس شاذا، ومن يتقبلنا على ذلك فهو المستفيد، ومن لا يتقبل فلا خسارة هنا لنا.