يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهذه المقولة الشائعة بين المهتمين بتاريخ الأمم والشعوب، أثبتت صحتها ليس في علم التاريخ فحسب بل تجاوزتها نحو عالم الفلسفة. فأيدي المنتصرين قد امتدت تجاه الفلسفة وتاريخها وصنعت تاريخا فلسفيا مزيفا يلائم نرجسية المنتصر ويرضي غروره، فمعرفة ما حدث فعلا في تاريخ الفلسفة محجوب عنا ولا زلنا نجهل حقيقته، وكتب تاريخ الفلسفة التي تكتظ بها المكتبات العامة والتجارية لا تنقل لنا -في الحقيقة- التاريخ الفعلي للفلسفة.

سألت صديقا عزيزا من المهتمين بكتب الفلسفة وتاريخها سؤالا بسيطا: هل مر عليك اسم الفيلسوف بوذا أو قرأت تعاليمه وفلسفاته في أي كتاب من كتب تاريخ الفلسفة؟ وكانت الإجابة المباشرة: لا، تخيل فيلسوف بهذه الأهمية والتأثير، وله أتباع ينتشرون في أجزاء كثيرة من العالم، لم يأخذ حقه في تاريخ الفلسفة، ولا أحد ينكر أهمية تعاليم بوذا ومدى تأثيرها في عالم الفكر الإنساني، وقد وضعه مايكل هارت في كتابه الشهير (المئة الأوائل) في المرتبة الرابعة بين الشخصيات المؤثرة في التاريخ.

إن تاريخ الفلسفة، مع كل هذا التعصب العرقي والتزوير والتحريف والإقصاء، يمثل مشكلة ثقافية في قضية تعليم الفلسفة، سواء لطلاب المرحلة الجامعية أو ما قبل المرحلة الجامعية، لأن تدريس الفلسفة انطلاقا من تاريخها هو الأسلوب الأمثل الذي اتبعته غالب جامعات ومدارس العالم في تدريسها لمقررات الفلسفة. فهناك في مجال المناهج التربوية ما يعرف بــ (النقل الديداكتيكي) ويقصد بها العملية التي يتم من خلالها نقل المعارف العلمية الدقيقة التي ينتجها المختصون إلى مادة دراسية تلائم مستوى وعقلية طلاب المدارس، دون أن تفقد جوهرها أو تقع في فخ التلقين المموه، ونقل الفلسفة إلى مادة دراسية تلائم عقلية الطلاب هو أمر متعذر ولا يمكن تحقيقه لذلك اقتصر تعليم الفلسفة على تاريخها وروادها وأهم الأفكار التي قدموها، وإذا كان تعليم الفلسفة لطلاب المدارس متعذرا تربويا فإن تدريس تاريخها يمثل مشكلة ثقافية.

اطلعت على كتاب (تاريخ الفلسفة الحديثة) لمؤلفه وليم رايت، الذي كان الهدف من تأليفه أن يكون مدخلا لتاريخ الفلسفة لطلبة الجامعات، وهو من الكتب واسعة الانتشار في الولايات المتحدة الأمريكية حتى أصبح من الكتب المقررة في جامعاتها بانتظام. يقول المراجع في مقدمته التي كتبها في وصف الكتاب: «ولقد بلغ من شيوعه في الجامعات الأمريكية حدا جعله يطبع أكثر من عشرين مرة على مدى عشرين عاما، أي بمعدل طبعة جديدة كل عام منذ صدوره أول مرة عام 1941».

يخلو هذا الكتاب الذي يدرس لطلاب الجامعات خلوا تاما من أي ذكر لأي فلسفة خارج سياق الثقافة الأوروبية، مع أن مؤلف الكتاب درس في جامعات عريقة كجامعتي أكسفورد ولندن، وقام بالتدريس في عدة جامعات أمريكية عريقة منها جامعة تكساس وجامعة شيكاغو وأنديانا، فكان مفترضا من المؤلف أن يتجاوز الطرح الإقصائي المبني على الأحادية الثقافية والمؤمن بمركزية الفكر الذي يتعامل مع بقية الثقافات بصفتها ثقافات بدائية وهامشية.

تاريخ الفلسفة الذي بين يدينا لا يتمتع بالتعددية الثقافية ويحاول أن يصور الفلسفة الغربية وكأنها مكسب حضاري من إنتاج ذات واحدة (الذات الغربية) وتقصي تماما فعالية الآخر ومشاركته في عالم الفكر والفلسفة، فأصبحت الفلسفة الحاملة للثقافة الغربية هي المركز وما عداها بدائي وهامشي، ومن منظور التفوق العرقي يجب على بقية الثقافات أن تستقبل هذه الفلسفة كحضارة، لذلك أصبح لهذه الفلسفة المتورطة بعقد التفوق رسالة إنسانية تجاه الشعوب الأخرى من أجل تخليصها من التخلف وبث النور في عقولها المظلمة.

طبعا نحن لا نعاتب المنتصر، فمن حق المنتصر أن يفرض شروطه، والثقافة الغربية اليوم ثقافة منتصرة علميا وفكريا ولا أحد يجادل في ذلك، ولكن ما هو دور الثقافات الأخرى كأبناء الثقافة العربية، وهل سيقتصر دورهم على التلقي السلبي للفكر والمعرفة والثقافة على أمل اللحاق بركب الحداثة والتنوير؟ نظرة سريعة على حراكنا الثقافي اليوم ستعطي انطباعا كاملا بأن دورنا مقتصر على الاستهلاك السلبي للأفكار دون أي محاولة لكسر تلك المركزية أو نقد الأسباب الأيديولوجية والتحيزات العرقية التي ارتبطت بالحداثة الأوروبية.

نحتاج اليوم حراكا ثقافيا جديدا يزعزع سلطة المركز الفلسفي ويرفع شعار التنوع والاختلاف في إطار التواصل بين الشعوب دون ضغط أو إكراه، حراك جديد يرفض أي مركزية وكل ما هو مبني على وحدة ثقافية أبدية، ويفتح الأبواب المغلقة لحداثة ثقافية جديدة منفصلة عن المركز (الحداثة الأوروبية)، حداثة يعبر فيها كل نوع ثقافي عن خصوصيته ودوره.

فأي حداثة يجب أن تمر عبر وبواسطة التواصل والتداخل الثقافي بين الشعوب، مع رفض أي نظريات تحديث تدعو للتجديد من خلال مركز واحد للفكر والثقافة، وهذا لن يحدث على أرض الواقع دون زحزحة المركز نفسه عن طريق التنافر والاختلاف معه، ونقده نقدا موضوعيا في سبيل إعادة تعريف الخطاب الثقافي في العالم العربي.