في البداية أرى أنه يجب أن نعي الفرق بين السلام والتطبيع، وأنه ربما اقتضت المصلحة الوطنية العليا الأول، وربما حكمت الظروف والمجريات بالثاني. كما يجب ألا يغيب عنَّا أن إسرائيل كيان مغتصب وإرهابي، ووضع نشاز في المنطقة.

في إنجاز كبير، قامت قناة العربية بصناعة ثلاث حلقات من لقاء مهم وعميق، تحت عنوان: (مع بندر بن سلطان)، تكلم فيه أحد أساطين السياسة والدبلوماسية السعودية الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، الأمين السابق لمجلس الأمن الوطني السعودي، وكان الباعث على حديث الأمير بندر ما تفوه به بعض القيادات الفلسطينية حول قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، بإعلان اتفاقية مع إسرائيل في ظل رعاية أمريكية، وكان عتب الأمير بندر منصبًا على اللغة المنحطة التي خرجت بشكل رسمي من قبل القيادات الفلسطينية، وأن ما حدث من الدولتين الخليجيتين -بحسب وصف الفلسطينيين- هو تنكر للقدس، ولحقوق الشعب الفلسطيني، ولقضيته، ولدولته، ولرؤية الدولتين، كما أنها طعنة مسمومة في الظهر الفلسطيني، ومحاولة للالتفاف على الشرعية الدولية.

وركز الأمير بندر على أن الأوصاف التي استخدمها القادة الفلسطينيون غير مستغربة؛ لأنها سنة مطردة في تعاملهم مع بعضهم البعض، لكن أن توجه للخليجيين وقادتهم، فهذا ما آلم الأمير وأحزنه، ما جعله يتحفز للحديث إلى المواطنة والمواطن السعوديين، بحكم أنهما العنصران المهمان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أيده الله-، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -أيده الله-، والأهم لسموه الكريم شخصيًا.

أزاح الأمير الموفق في حديثه الستار عن الجهد الجبار الذي بذلته المملكة من عهد المؤسس الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- ومن عام 1939، وحتى اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وكان حديث الأمير بندر يبين بوضوح أن القضية الفلسطينية العادلة، هي قضية المملكة الأولى من أكثر من ثمانين عامًا، تلك القضية التي وصفها الأمير بندر بأنها نُهبت من قبل الإسرائيليين والقيادات الفلسطينية المتوالية على حدٍ سواء.

«القضية الفلسطينية قضية عادلة، ومحاموها فاشلون، والقضية الإسرائيلية قضية غير عادلة، ومحاموها ناجحون»، بهذا السطر الموجز البليغ والواضح والمباشر، اختزل الأمير بندر كل المسائل والقضايا في المسألة الفلسطينية والإسرائيلية على أرض فلسطين.

ويمعن الأمير المفوه في صياغة مجموعة من الرسائل البليغة والمباشرة، التي تختصر الأمر، حينما يقول: «القادة الفلسطينيون يراهنون كل مرة على الطرف الخاسر»، وهذا -كما عبر الأمير بندر- له ثمن باهظ على تكلفة وحمولة القضية الفلسطينية.

ويمكن بتتبع التاريخ والحقائق، وبكل بساطة أن ترى مدى عمق وصدقية كلام الأمير بندر، فمن أمين الحسيني وارتمائه في أحضان النازية وهتلر، وحتى الرئيس محمود عباس وحط رحاله وركائبه في ساحة إردوغان، تتجلى رهانات القيادات الفلسطينية على الأطراف الخاسرة.

ويؤكد حديث الأمير على أن السياسة السعودية تجاوزت الكثير من الطعنات التي تلقتها من القادة الفلسطينيين، في سبيل القضية العادلة، وحق الشعب المحروم.

ويشير الأمير بندر إلى أن رغبة الحل من قبل بعض الأطراف الإقليمية والدولية للقضية الفلسطينية تصطدم دائمًا بصخرة الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، رغم الجهود لرأب الصدع، ومحاولة توحيد الصف الفلسطيني.

وببلاغة متناهية، وصف الأمير حال المملكة مع القادة الفلسطينيين، بأنهم في كل مرة يطلبون النصيحة والمساعدة، فتمنحهم الحكومة السعودية النصيحة، والمساعدة بدون شروط، فيأخذون المساعدة، ويعملون عكس النصيحة، ثم يفشلون، ويرجعون إلى القيادة السعودية مرة أخرى، فتؤيدهم ضد العالم أجمع رغم الفشل، لسبب بسيط هو أن القيادة السعودية تضع نصب عينيها الشعب الفلسطيني فقط، هذا الأمر هو ما ولد لدى القادة الفلسطينيين عدم المبالاة، والاكتراث لأمر شعبهم، وأنه لا ثمن يدفعون أو مسؤولية يتحملونها في الظروف الراهنة تجاه قضيتهم وقتها، وإلى اليوم.

وكانت تعرية الأمير بندر لياسر عرفات وتحميله مسؤولية إضاعة كل الفرص التي أتيحت له من أجل التوصل إلى تسوية القضية الفلسطينية، بأفضل الخيارات المطروحة، هي في الحقيقة تعرية للقيادات الفلسطينية الحالية، لأنهم هم أنفسهم كانوا فريق عمل ياسر عرفات حتى آخر لحظة.

وعلى كلٍ، لا أتوقع أن المملكة بحديث الأمير تعدّ نفسها لأيّ خيارات مغايرة يمكن أن تتخذها في المستقبل، كأن ترفض أن تكون مقيّدة بأي اعتبارات للقضية الفلسطينية، خصوصًا مع ارتماء الرئيس محمود عباس في أحضان تركيا وإيران كرد غريب ومستهجن على عملية التقارب الخليجي الإسرائيلي، ولم يراع مواقف دول الخليج العربي من هاتين الدولتين وهما قطبا محور الشر الإقليمي في الشرق الأوسط، وهذا الأمر ربما يجعل البعض يعتقد أن المملكة قد لا تراعي الموقف الفلسطيني عندما يتوجب عليها اتخاذ قرارات مرتبطة مباشرة بمصالحها الوطنية، وهذا أمر مجانب للصواب، بغض النظر عن التحليلات والتنبؤات المغرضة من قبل الأعداء، رغم أن الأمير أشار إلى أن التعامل مع القضية قد يتخذ أسلوبًا ونهجًا آخر، تحديدًا مع القادة.

أخيرًا، وكما قال الأمير الموفق: «ليست لدينا مزايدات وشعارات نبيعها، لدينا مواقف وأعمال»، وكما قال أيضًا مخاطبًا المواطنين والمواطنات السعوديين: «دولتكم وقيادتكم مواقفها ترفع الرأس، والتاريخ والوثائق يشهدان».