يحدثك عن مجلدات شيخ الإسلام الفلاني، وكتب آية الله الفلاني، ويروي لك قول سماحة العلَّامة فلان، فتسأله على حين غِرَّة من حماسه المستفيض في تسميع أسماء الرجال محملة بالألقاب (المعظمة) وتقول له: أعطني عشرة أخطاء وقع فيها كل اسم ذكرته لي في مؤلفاتهم، فتراه يطيل السكوت ولا جواب، فتقول له: أعطني خمسة أخطاء جانبهم الصواب فيها، وعندك مؤلفات كل رجل منهم على حدة، فيقول: وما الفائدة من هذا السؤال؟ هل يرجى من البحث في أخطاء هؤلاء العلماء الأجلاء أي فائدة علمية؟ تقول له: بل يرجى منها ما هو أكثر من الفائدة العلمية، يرجى التأكد من السلامة العقلية لقارئ هذه الكتب، فهل يعقل أن هؤلاء البشر لا يخطئون، بينما لو سألتك عن أخطاء الرسول الكريم التي جاء الوحي للتنبيه عليها ودونها الفقهاء والمفسرون كنحو ما ورد في سورة (عبس) وسورة (التحريم)، لأوردتها وأوضحت مباحث العصمة واختلاف العلماء في مجالاتها... الخ، ولكنك تعجز عن اكتشاف أخطاء من تراهم (معصومين) في كتبهم ومؤلفاتهم من رجالات ما بعد الصحابة والتابعين، فهل يقع هذا العجز تحت طائلة قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... الآية) أم لا؟ فكيف بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة وقد انقطع الوحي فرأينا من أقوالهم وأفعالهم ما يجعلنا نصون مقامهم عن الحديث فيما لم نحضره من معركة الجمل وصفين.

كل هذه المقدمة التي قد تقع مع كل قارئ للتراث بعين التقديس والحب والأعمى، سببها أن كثرة قراءة الكتب لا تعطي معرفة، فما يعطي المعرفة هو (الصدق مع الذات والواقع) تجاه كل كلمة يقرأها الشخص، فلو قرأنا مثلاً ما سطره الفقهاء عن حرمة سفر المرأة دون محرم مسافة (80) كيلو مترا، فلن تلتفت له الآن، لأنك لن تقبل وأنت رجل أن تسير نصف هذه المسافة أو حتى ربعها على ظهر بعير كما كان الناس قبل مائة سنة، فما بالك بإمرأة، وعليه فهذه الحمولة الفقهية في مسألة السفر راجلاً أو على بعير لم تعد تعني الرجل عدا أن تعني المرأة من قريب أو بعيد في هذا الزمن، وعليها قس.

شرط المعرفة (الصدق مع الذات والواقع) لكن (الصدق مع الذات والواقع) ليس سهلاً كما يظن القارئ لكتب التراث، فلو سألت مجموعة من الناس، هل تعرفون أن آباءكم أو أبناءكم سيموتون، فسيجيبونك بحذاقة تشبه حذاقة العارف: بأن الموت سنة الحياة، ورغم هذه الحذاقة في الإجابة بشكل يوحي لك أنهم (يعرفون) إلا أنك تجدهم عند وفاة أب أو ابن وهم يبكون بل وينتحبون، وعندها تستطيع أن تقول لهم: الآن عرفتم، وهذه المعرفة أثرت على شعوركم إلى حد البكاء، وليس بعد البكاء سوى النضج الوجداني والعقلي تجاه الواقع، مع ما يترتب على ذلك من (انقلاب شعوري تجاه الذات والواقع)، فاليتيم يصبح أكثر نضجاً، والمكلوم بابنه يصبح أكثر رشداً، وعليه فمن يقرأ مئات الكتب، ولا يلامسه المقروء مقارنة ومقاربة مع نفسه ومع واقعه فسيبقى مجرد حافظ يهذُّ الكلام هذَّاً، أما من عرف حقيقة كل كلمة يقرأها ووزنها (بعقله) مع (واقعه) الحضاري تقنياً واقتصادياً وسياسياً، فسيجد ألم تساقط أسماء كبيرة أضاع عمره في قراءة كتبها بلا جدوى أو طائل.

أعتذر من (محمد العلي) الذي تحرر من الألقاب، منذ تجاوزه تقاليد وبراويز الحوزة العلمية، وصولاً إلى الحداثة والنظر العقلي الحر، فلقد ذكر في 2013 وتحت عنوان (باقون ما بقيت الثقافة) في رده على ظني بأن الإخوان إلى زوال، فأوضح بأنهم ربما زائلون كسلطة سياسية، لكنهم باقون كوجود ثقافي، ثم أوضح ما نصه: (إن المرحلة الرومانسية لا تزال مسيطرة على ثقافتنا ولن تزول إلا بزوال هذه الثقافة وتغير الرؤية من رؤية لا ترتبط بالواقع.. بل بالتهويم الرومانسي إلى رؤية تستند إلى الفهم العلمي للواقع...) عذراً محمد العلي فقد احتجت سبع سنوات كي أفهم أن المشوار طويل مع تحويل الوجدان الرومانسي التراثي الذي يرى أن (المعرفة ثابتة) إلى عقل علمي رزين يدرك (أن «أي تعريف» يتغير خلال نمو المعرفة عبر الأجيال)، فحتى فظائع داعش قاوموها بالاستنكار والإسقاط كحيلة نفسية تنفي الارتطام بحقيقة ما عاشوه وتلقنوه في المدارس على يد تربويين مخلصين لا شعورياً لمخرجات الإخوان والسرورية، ولهذا فمن ضياع الوقت النقاش مع هؤلاء على أساس السلامة العقلية بقدر ما يجب أن يتدخل علماء النفس وعلماء الاجتماع لعقد ندوات تدرس أمثال هذه الظواهر.