يعد كبار السن من إحدى فئات المجتمع المعنية بجهود الرعاية الاجتماعية وتقديم مختلف الخدمات التي تشبع احتياجاتهم، وتعمل على تلبية متطلباتهم، خاصة وأنه في ظل ارتفاع متوسط عمر الإنسان اليوم فإننا نتجه نحو تزايد حجم هذه الفئة في المجتمعات، وهم بذلوا كثيرا لأجل المجتمع في مراحل عمرهم المبكرة وشبابهم، بما يخدم مجتمعهم ويساهم في تنميته وتوجهه نحو الأفضل، إلا أننا إلى اليوم لا نعتبر متقدمين كثيرا في نوعية وكم الخدمات التي تستهدفهم على مستوى جميع القطاعات والجهات، بما يتناسب مع طبيعتهم الحساسة ونسبة تواجدهم في المجتمع، حيث يشكل المسنون السعوديون البالغة أعمارهم 65 عاما فأكثر 4.2% من إجمالي السكان السعوديين وفق آخر إحصائية قامت بها الهيئة العامة للإحصاء.

وهذا الرقم لا يعدّ كبيرًا مقارنة بنسبة تواجد هذه الفئة في مختلف دول العالم، إلا أنه وعلى صعيد آخر لا يمكن تجاهل وجودهم لا سيما وأننا كمجتمع عربي مسلم فإن قيمنا الدينية والاجتماعية تدفعنا على الدّوام نحو تقدير هذه الفئة واحترامها وخدمتها، ردًا للجميل وشكرًا لعرفان اليد البيضاء لهم فيما مضى، وتقديرًا لحقوقهم من منطلقات إنسانية.

إنّ خدمة المسنين ورعايتهم لا بدّ أن تكون استجابة للاحتياجات التي يمرون بها بسبب التقدم في العمر، والذي يزامنه عدد من المشكلات الصحية والنفسية والاجتماعية التي تتزايد عند تقاعدهم وانحسار أدوارهم الاجتماعية وتراجع علاقاتهم لنفس هذه الاعتبارات، إضافة إلى وفاة الأصدقاء أو شركاء الحياة أو انفصال الأبناء عنهم.

ولا يمكن أن نغفل عمّا تولّده تلك المشكلات الاجتماعية التي يتعرضون لها من قبيل العزلة أو الانسحاب الاجتماعي من مشكلات نفسية مترتبة عليها كالاكتئاب والوحدة. وهذا ما أكدت عليه وزارة الصحة السعودية في إحدى نشراتها التي تناولت مشكلة الاكتئاب كأحد أهم المشكلات النفسية لدى كبار السن.

وهذا ما أشارت إليه أيضا نتائج عدد من الدراسات العربية والمحلية، حيث «يصاحب مرحلة الشيخوخة تقاعد عن العمل وعزلة عن المجتمع مما يؤدي إلى إحساسهم بالوحشة، لذلك فإن المسنين أكثر حاجة إلى تدعيم علاقاتهم الاجتماعية لمواجهة تلك المتغيرات الاجتماعية، وكبر السن يفرض على المسن أن ينسحب تدريجيًا من شبكة العلاقات الاجتماعية والتخلي عن الأدوار الرئيسة التي كان يشغلها؟

تطوع كبار السن مطلب نفسي واجتماعي

إن تدعيم العلاقات الاجتماعية لكبار السن ولا سيما بعد التقاعد يقتضي إيجاد أدوارٍ بديلة لهم، تحقق الإشباعات النفسية والاجتماعية نفسها التي كانوا يشعرون بها في فترات سابقة أثناء العمل ومع اتساع شبكة العلاقات الاجتماعية لهم.

وتعد المشاركة الاجتماعية للمسن بعد التقاعد من أفضل البدائل التي تخفف عليه كثيرا من تلك المشكلات، وتعزز لديه شعوره بالجدوى والنفع، والمشاركة الاجتماعية في أبسط صورها هي تطوع المسن وبذله لما يستطيع من وقت أو مال أو جهد في سبيل تقديم يد العون للآخرين أو الانخراط في أعمال تطوعية منتظمة لتنمية مجتمعاتهم المحلية.

«العمل التطوعي يشعرني بسعادة بالغة وبتقدير لذاتي، وبأني قدمت يد العون والمنفعة للآخرين، وأجد من المجتمع الكثير من الدعم والتشجيع على ما أقوم به، هذا فضلًا عن اتساع شبكة علاقاتي داخل السعودية وخارجها لا سيما من زوّار متحفي».. هذا ما تقوله السعودية منيرة الأشقر المهتمة بالتراث السعودي، والتي حولت جزءًا من منزلها إلى متحف تراثي أصيل يرتاده الزائرون والسائحون من داخل السعودية وخارجها، وتوظفه لأعمالها الخيرية وخدمة مجتمعها، وتعبر عن مسؤوليتها الاجتماعية التي تتبدى حين تساهم في تعزيز هوية بلادها، وتكون صاحبة سبق في العطاء حين تدعم الأسر الفقيرة والمحتاجة كونها وسيطا لأصحاب الخير والجمعيات المعنية بالأسر الضعيفة.

نعم، للتطوع آثار إيجابية متعددة تنعكس على الجوانب الاجتماعية والنفسية لأفراد أي مجتمع، لأنه مورد من موارد العطاء والتنمية، ووسيلة من وسائل تعزيز التكافل الاجتماعي، وهذا يعني أن يشعر الفرد بأنه قادرٌ على نفع الآخرين، وأن يؤدي أدوارا اجتماعية مثمرة ويشغل مكانة يُقدّر عليها، وهذه الانعكاسات الإيجابية للتطوع لا تقتصر على فئة عمرية دون أخرى وإنما على جميع فئات المجتمع ومختلف أطيافه بما فيهم المسنين.

لكن وللأسف ثقافة تطوع كبار السن ثقافة غير متداولة في المجتمع ولا تلقى نصيبها من العناية والالتفات، فقد رصدت الهيئة العامة للإحصاء 2018 أن نسبة المتطوعين من كبار السن 4.6% من إجمالي السكان السعوديين، وهذه النسبة قد تعكس الصوت الخافت لثقافة تطوع كبار السن، إلى جانب محدودية الفرص التطوعية المتاحة والملائمة لقدراتهم.

والتساؤلات المهمة التي تفرض نفسها إزاء هذا الوضع هي: ما الدور الذي تؤديه جمعيات رعاية المسنين في إتاحة مثل هذه الفرص أو تعزيز ثقافة تطوع المسنين لدينا في المجتمع؟ وهل تكفي تلك الجمعيات لتلبية هذا المتطلب؟ أم نحن بحاجة إلى جهات أخرى داعمة كلجنة كبار السن بمجلس شؤون الأسرة، وغيرها من لجان ومراكز التنمية الاجتماعية؟

يجيب المدير التنفيذي لجمعية إكرام المسنين في الباحة عبدالرحمن أبو مالح على شيء من تلك الأسئلة، قائلًا «هناك توجه إيجابي ملحوظ من قبل كبار السن نحو التطوع، لكن يغلب على أعمالهم التطوعية الطابع الفردي بعيدا عن الانضمام للمؤسسات، وقد يرجع ذلك لأسباب من بينها ضآلة الفرص التطوعية المتاحة والمتناسبة مع قدرات كبار السن من قبل مؤسسات المجتمع، بالإضافة إلى أن ثقافة التطوع في شكلها المؤسسي والمنظم لكبار السن لا زالت محدودة مجتمعيا، إلا أننا في إكرام نسعى من خلال الكثير من برامجنا ومبادراتنا كليالي الطيبين، وأصدقاء المسنين إلى تحقيق الدمج الاجتماعي للمسنين وتوفير فرص تطوعية تشبع رغبتهم في البذل والعطاء».

منصة العمل التطوعي هل تتسع لهم؟

وإذا ما رصدنا التجارب العربية التي تخدم فكرة تطوع المسنين نجد أن الإمارات العربية المتحدة حازت فرصة السبق بذلك عام 2018، حين أطلقت مبادرة (كبار المتطوعين) والتي تهدف إلى فتح الباب أمام كبار المواطنين للمشاركة في العمل التطوعي، من خلال استثمار طاقاتهم وخبراتهم بإتاحة فرص تطوعية مناسبة لهم.

في بداية هذا العام الميلادي 2020 دشن وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية منصة العمل التطوعي، في بادرة جديدة مجتمعيًا تهدف إلى تمكين وتنظيم العمل التطوعي، من خلال التقاء أصحاب الفرص التطوعية في مختلف المؤسسات المجتمعية والأفراد المتطوعين ذوي الرغبة والخبرة، أو المهارات المتناسبة مع الفرص المتاحة، وتعمل المنصة على رصد واعتماد الساعات التطوعية لهم وربطها بمركز المعلومات الوطني، فلماذا لا تكون هناك فرص تطوعية تُطرح من قبل تلك المؤسسات تناسب أيضا كبار السن المتقاعدين وغيرهم من ربات وأرباب البيوت المتعلمين والأميين من أصحاب الحرف أو المهارات اليدوية، وترصد لهم الساعات التطوعية ثم يتم تكريمهم سنويًا في اليوم العالمي للمسنين.

وتتولى هذه الدُور والأندية توفير كافة الخدمات التي يحتاجها المسنون بداية من الرعاية والتأهيل وتدعيم دور الأسرة التي يعيش فيها المسن، وانتهاء بعمليات إدماج كبار السن في المجتمع، وزيادة مشاركاتهم في المجتمع عبر الأعمال اليدوية والمعارض والأنشطة الترفيهية، وتوسيع فرص الاستفادة من خبرات المسنين، وتتولى هذه الدُور والأندية توفير كافة الخدمات التي يحتاجها المسنون، بداية من الرعاية والتأهيل وتدعيم دور الأسرة التي يعيش فيها المسن، وانتهاء بعمليات إدماج كبار السن في المجتمع وزيادة مشاركاتهم في المجتمع عبر الأعمال اليدوية والمعارض والأنشطة الترفيهية، وتوسيع فرص الاستفادة من خبرات المسنين.

إننا نحتاج مثل هذه الجهود والمبادرات لتلبية احتياجات كبار السن النفسية والاجتماعية، وهي ذات أهمية لا تقل عن جهود الرعاية الصحية والتسهيلات التي تقدم لهم، حيث إنها ترفع من مستويات جودة حياتهم ورضاهم، وتجعلهم شركاء فاعلين في عملية التنمية، وتساعدهم في التعبير عن مسؤوليتهم الاجتماعية تجاه الوطن، وتؤكد لهم أن هذه المسؤولية لا تقتصر على فئات عمرية بعينها ولا فترات زمنية معينة.