من طريقة فتحه لقائمة المأكولات المزدوجة عرفت أنه لم يفتح في حياته كتابا أو مجلة، ومن أذنية المستديرتين المتعاليتين عرفت أنه لم يسمع في حياته نشرة أخبار أو تعليق سياسي، ومن أسلوبه في نفض المملحة فوق صحونه، عرفت أنه قد نفض يديه من هموم هذا الوطن منذ سنوات.

ومن قدميه المنفرجتين تحت المائدة عرفت أنه جاهز للسير في طريقين متعارضتين في وقت واحد من أجل مصلحته ولو انشق إلى شقفتين.

ومن ظهره الواسع كمحضر بناء

ونقرته المحفرة الغبراء كشارع الثورة

وصديقته الرابضة أمامه كالجرافة

عرفت أنه متعهد بناء!!

وغلى الدم في عروقي وغلت القهوة الباردة في فنجاني تعاطفا وتأييدا لمشاعري، وهاجت بي رغبة وطنية وعمرانية لاهبة في الانتقام منه ومن أمثاله فورا وفي الحال. إذاً هذا هو خصمي وغريمي وبسببه هو وأمثاله لا تجدني في الباص إلا واقفا وأمام الأطباء إلا شاكياً وأمام نشرات الأخبار والتعليقات السياسية إلا مزمجراً أو شاخراً. بسببه، هو وأصدقائه تدور نصف صيدليات البلد فلا تجد قطرة للأنف أو شرابا للسعال. بينما تجد ألف صنف وصنف من الجن و..... و...... و....... بسببه هو وأمثاله، كلما قرع السمان الباب في آخر الشهر أهمس لزوجتي وأنا أتصنع النوم، قولي له: غير موجود.

وكلما جاء من بعده اللحام أهمس لها وأنا أسرع إلى التواليت قولي له: لقد سافر.

وكلما جاء من بعده الغضب الأكبر صاحب البيت، أهمس لها وأنا أصعد إلى السقيفة قولي له: لقد مات.

بسببه هو وأمثاله: خلاصة تجاربنا في التنظيم والتنمية في الـ..... المتطرفة والمعتدلة، أوجاع السياب وآهات سيد درويش وتصوف صدقي إسماعيل، ترقد في بطنه المرتاح على حافة المائدة. هل أعضه في رأسه؟ أم أطبق أصابعي حول عنقه وأظل أضغط وأضغط حتى أستعيد كل ما هو مسلوب ومنهوب منذ أجيال؟ أراهن أنه في هذه الحالة لن تنبثق من فمه سوى الخرائط ومعدات البناء ومن كل أذن من أذنيه رقم مسؤول أو دفتر شيكات، أم أضع أمامه ما معي من روشيتات ووصفات وأقول له: يا أخ موتونا، أو ألف ما في جيبي من أسعار السلع والحاجات حول رأسي وأرقص أمامه وأقول له: يا أخ جننتونا؟ أم أضع رأسي على كتفه باكيا وشاكيا ما نعانيه؟ ولكن أتراه يفهم كلمة مما أقوله عن الوطن والحرية ويأس الجيل الماضي وذعر الجيل الآتي؟ بلى إنه يفهم ولذلك يجب أن أسايره ولا أغضبه، فهو وأمثاله بطريقة أو بأخرى لهم تأثير الطاعون على السياسة والأدب والفكر والشعر والنثر والزجل، فمن يدريني إذا كان هذا المتعهد في سهرة عامرة مع أحد الوسطاء والموظفين الكبار وتاهت صاحبته وتصنعت الغنج والصداع وقالت: لا أحب صوت هذا المطرب، دبروه، أو لا أطيق قصيدة النثر إلغوها لا. لا. متعهد بناء شق طرقات شق صفوف. ما لي ووجع الرأس هذا؟

وهل علي أنا المواطن الأعزل أن أدفع ثمن سنوات من الأخطاء والتجاوزات والسهرات، وأنا بالكاد أدفع ثمن قهوتي هذه، وصفقت بقوة في الظاهر للكرسون، وفي الحقيقة للمتعهد الذي نهض وسار ويسير حيث يشاء دون أن تعترض طريقه حصاة، وإن شاء الله يأتي وقت يلتزم فيه متعهدو بناء المخازن وصوامع الحبوب، بناء النهضة المسرحية والأدبية والموسيقية في هذا القطر.