لعلك سمعت من يقول أن ما ء بئر (زمزم) يعلو ويزداد ليلة النصف من شعبان، ولعلك وجدت من يدافع عن هذا الزعم ويحاول تقريره، إن لم تكن كذلك فأنا وجدت ذاك القائل، وهو بحمد الله يمثل الأقلية من العامة التي لم تحظ بقسم وافر من المعرفة والدراية، وكان حسن الظن بي فجاء عارضا قوله (ولا أقول رمحه) يطلب مني إجابته عما يعتقده من زيادة بئر زمزم ليلة النصف من شعبان، وكان حديثا طويلا قد لا يهم القارئ الاطلاع على كامله لكني قلت له: هات برهانك، فقال لي: سمعته ممن أثق به، فقلت له إن كان قائل ذلك يحتل مكان الثقة منك فقد كذبك وأوهمك فالماء ببئر (زمزم) لا تطرأ عليه زيادة، وقد خدعك من نقل لك زيادتها تلك الليلة أو غيرها، إنك تجني على نفسك حينما تجعل منها بوقا ينقل الأوهام والمزاعم، وكان الأحرى بك أن تمتنع عن التصديق حتى تجد ما يحملك على الاقتناع.

فقال لي وكيف أقتنع؟ قلت له: طلب مصدر الإشاعة بما ثبت صحتها وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتل مكان (الذروة) في الإقناع والتأييد بعد كتاب الله تعالى فهل لديه منها ما يؤيد زعمه؟ أو من قول صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، وقد قضوا جزءاً من حياتهم الباركة في رحاب بيت الله المطهر، وأعلم منا بفضائل بئر زمزم وما يلابسها من تطورات؟ ثم زيادتها هل كانت منذ القدم وفي عهود الإسلام الأولى ولم يتحدثوا لنا عنها، وهم قد أوضحوا لمن بعدهم كل مدلهم، وأناروا لهم كل مظلم؟ أم هي طارئة جاءت في العصور التالية؟ وسوف يعجز ولا يجيب لا لشيء إلا لأنه لا يجد ما يؤكد أو حتى يشير إلى هذه الظاهرة المزعومة؟ هذا مع أن الواقع الملموس يكذبها وينفيها ويعلن بطلانها وبدا لي أنه اقتنع.. وكانت مناسبة طيبة أتحدث فيها لمن يظن صحة هذه الظاهرة.. أنها (خرافة) عارية عن الدليل، ومغايرة للواقع والمشاهدة، فالماء ببئر زمزم ثابت لا يزيد كما يصورون، وتخصيصهم تلك الزيادة في ليلة معينة (وهم آخر باطل) لا أساس له.

ونحن بحمد الله في عصر يتسم بسعة المدارك، وتنوع المفاهيم والوعى الديني بدا واضح الأثر في الطبقات المختلفة، وبدأنا نشعر – من الكثير برغبة صادقة في البحث عن الحقيقة المجردة عن الوهم والتضليل ليقفوا بها على شاطئ اليقين والمعرفة، وتحررت العقول من قيودها والنفوس من أوهامها، ورأينا من كان بالأمس يعتقد صحة كل ما يلقى إليه دون إعمال عقله وفكره ودون المطالبة بما يؤيده ويثبته، رأيناه اليوم وقد بدأ ينتصر لضميره وكرامته وعقله ساعيا للكشف عن الحقيقة قبل أن يحجبها ظلام الوهم والخداع، وهل هذا إلا بداية موفقة لانتصار الحق على الباطل واليقين على الشك والحقيقة على الوهم والخيال!! قد يقول البعض إنني أمعنت في التفاؤل! ولكنها بحمد الله ظاهرة ملموسة محمودة نتمنى على الله أن يكتب لها التأييد والبقاء لنراها حقيقة ماثلة غالبة.. وقد يكون ممكنا أن يتجاوز لك إنسان عن خديعته في ماله وما تحت يده، ولكنه لو فعل ذلك وأنت تمارس تلك الخديعة على حساب عقله وتفكيره – يكون قد انحدر بنفسه إلى مستوى التبعية الفاشلة الحقيرة.. راغباً بنفسه عن المستوى الكريم الذي رفعه الإسلام إليه وأنار له طريق السير فيه – وغير محسن لنفسه بما ارتضاه لها من مستوى (لا يشرفها) وهل العقل الإنساني - إلا موهبة جليلة – أنعم الله بها على عباده وأمرهم باستغلالها والانتفاع بمزاياها ليكون هذا طريقاً للوصول إلى الحق وإلى الإيمان بالخالق الواحد المنزه عن الند والشريك، والتصديق بما جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين المساء والأرض لآيات لقوم يعقلون)، ومن الخسارة الفادحة أن تظل العقول مكبلة في قيودها وأغلالها – ولا تحقق الحكمة الكريمة من تمييز البشر بها في معرفة الله تعالى، والوصول إلى الحق وطلبه والتعاون على نصرته وإقراره.

ولأعد إلى موضوع (حديثي) وأقول إنه لا يوجد أصل صحيح يؤيد ما يقال عن الزيادة التي تطرأ على ماء زمزم تلك الليلة أو غيرها، وهو قول محدث يمثل الوهم وتأثيره على عقول الدهماء وأفكارهم، ولا نجد عاقلا يقرر عل نفسه رؤيتها – ولكنها خرافة توارثها الناس دون أن يحكموا فيها عقولهم وأفكارهم – وتعالوا نتساءل عن كيفية تلك الزيادة، لقد كان فيما قرأت عن ذلك: (أن عيناً تسمى (عين سلوان) تتصل تلك الليلة ببئر زمزم ولذا يزيد ماؤها ويحلو، ولا أجد ما أعلق به على هذا القول وهو يستخف بعقول الناس وأفهامهم ويريد قائله – وقد جنى منه ما هدف إليه من كسب مادي ومعنوي – يريد من أسمعه أن يهبط إلى مستواه في الفهم ليصدق ما يقول.. إن ما قيل عنها لم ينته بعد فلقد قرأت: إن الزيادة تفيض منها البئر ولكن لا يشاهد تلك الزيادة إلا العارفون!).