نعيش في عالم متعدد، توسعت فيه دائرة الثقافة والحوار، ولا مجال للجلوس المتقوقع والمنعزل، لأن في ذلك تركا للرخاء المطلوب، والرفاهية التي ينشدها كل إنسان، ولن يسود بين الناس إلا اليأس والاحباط..

تعميق المشكلات بين الأفراد لا يفيد، وتوسيع الفجوات غير مجد، ولا بد من تحطيم الحواجز المكانية والزمانية، وأخص بالذكر الوهمية منها، والحرص على بقاء التعدديات المختلفة، وتجديد الثقافات، والحرص على احترام مختلفها، من خلال التفاعل المشترك، والحوار المستمر؛ وهنا أستحضر فكر الفيلسوف العالمي، ابن رشد الحفيد، من أعيان القرن السادس الهجري، في ص 67 من كتابه الممتع (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، وتحت عنوان (لا يمكن لفرد واحد إدراك كل العلوم)، وعند كلامه عن المتأخرين والمتقدمين، قال رحمه الله: «ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق؛ قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم»..

لن يربح في وسط ما ذكرته، إلا أصحاب النظرة المتسامحة والمتفتحة، وهذا لا يمنع من النقد البناء، كما أنه يعني قبول كل ما هو إيجابي، ورفض كل ما هو سلبي، وفي الوقت نفسه يعني الحفاظ على هوية كل شخص، وعدم التنازل عن الخصائص الذاتية، بل وحمايتها وصيانتها والحفاظ عليها، وفي الوقت ذاته مكافحة التمييز على أساس الأعراق أو الألوان أو المذاهب أو الثقافات، ولا سيما بعد أن ثبت للجميع ضرورة الرفض القاطع لدعوات الصدام الحضاري، وصار البديل اللازم هو تشجيع الحوار والتواصل، وعلى كافة المستويات، مع التأكيد على ضرورة احترام الفوارق المختلفة، والاحتفاظ بحق قبولها أو عدم قبولها..

الهيمنة، أيا كان نوعها، والفكرية منها بالذات، لا تصلح لبناء المجتمعات، وهي وقود كل الصراعات، وباب كل الكوارث، والناس في حاجة لمحاربة ذلك، وهذا يستلزم التشخيص الدقيق، وليس المعالجات الظاهرية فقط، ويستلزم أيضا التضامن العام، من أجل عدم انحسار القيم والمكارم من المجتمع، ومن أجل أن تتوافق الناس على قيم مشتركة، وكما ذكرت آنفا، هذا لا يعني عدم التصميم على التمسك بالأفكار والثقافات، ويعني في الوقت نفسه عدم تجاهل العلاقة بين القيم والتربية الثقافية، وعدم انعدام الفهم، وعدم الاحترام المتبادل، وعدم التشويش، وعدم رمي الاتهامات المعلبة، ومعاملة الكل على قدر واحد من المساواة، والأخذ على يد المفرط، «كائنا من كان»، وبذل كل الجهود في تطوير الحال، دون استيراد ما «أجمع» الشرع على منعه، كذا ما خالف الفطرة الأخلاقية، والسماح بكل ما ينحاز إلى المكارم والمحاسن، ولا مانع أبدا من أن يتنافس الناس على كل ما يمكن أن يؤدي بهم إلى التعارف والتبادل، من أجل وضع حد لاستمرار تراكمات الماضي.