لم أقرأ التاريخ؛ فهو ليس صفحة أو كتابا؛ إنما هو قرون وعصور وأجيال. وما تأتينا الذاكرة المكتوبة منه ما هو إلَّا شذرات ونُبذ يصدقُ بعضُها، والبعض إما مجانبٌ للصواب، أو لا ينقل الحقيقة كما هي، فحياة البشر منذ القِدَمِ تعجُّ بالمتغيراتِ تبعًا للأحداث وللظروف، وما تشهده الجغرافيا تحت الشمس وفي جنح الظلام هو أكبر وأكثر من التسجيل والتدوين. إن ما تحتويه الصفحات وما يدور على الألسنِ لا يتعدَّى كونه عناوين لإسهابات من الفصول والتفاصيل التي تصور الإنسان وهو يعمرُ الأرض ويلون معالمها بالكساء الحيّ وبالأحجام الصامتة الجامدة، كما تصوره وهو يهدم ما بناه ويحرقُ ما أنبته وسقاه. هنا تتجلّى نظرية المفارقة ومنطقية التناقض، ليصل بنا الاستطراد إلى مفهوم وحقيقة المواطنة وارتباط الإنسان بأرضه وبمجتمعه منذ القِدم، ارتباطًا منشؤه الحب، والغيرة، والانسجام، وأشياء أخرى.

في العصر الحاضر نشأتْ ظواهرُ نشازٍ متعفنة، شذَّت بأهلها، وشذُّوا بها، ليشطحوا خارج السياق والنمط، فئةٌ ليست كأيِّ فئةٍ، يصعب تصنيفها، لحداثةِ منحاها، وغرابةِ سلوكها، إنهم أولئك الذين يخرجون على وعن أوطانهم ومجتمعاتهم، فينتبذون أماكنَ ومواقفَ، ينادون من خلالها بـ (حيَّ على الدمار)، (وحيَّ على النُّباح) !!

وسواءً أكانوا من داخل الوطن، أو من خارجه، فهم خرجوا بشؤمهم وشذوذهم إلى حيث لا وطن يقبلهم، ولا أنفس تستأنسُ بهم، فإن كانوا قد استؤجِروا !! فقد خسرَ المُؤجِّرُ والمستأجرُ.

أسفي !! على القِلَّةِ التي تصفقُ لهم بأكفّ من ورقٍ ؛ فلعلَّ المصفقين ذاتَ يومٍ يستيقظون من أضغاثهم، ويدركون أن أبطالَ أوهامِهِم، لا يتعدون كونَهم موبوئين، وفي عقولهم مرض.