عندما تقع عيناي على معلومة جديدة أشعر بنشوة عظيمة، وأبدأ بالبحث غوصًا في كل البحار التي تموج أمامي لكي أخرج من باطنها لآلئ المعرفة، وكيف إذا حينما تكون في إطار «كان ياما كان»! أعود طفلة تريد أن تعرف المزيد عن طريق الإعادة والتكرار، لكي تستطيع أن تحلل كل معلومة لتصل إلى ما هو أبعد وأعمق وأجمل.

وقد تتساءلون: كيف بدأتِ؟ كالعادة حينما كنت أقرأ التعليقات على أحد المقاطع على يوتيوب، وقعت عيناي على رد أحدهم بأن ما لدينا من قصص حِكم وعِبر جاء في الأصل من «أحيقار الحكيم»، بالطبع كانت مكتوبة باللغة الإنجليزية، ومن هنا بدأت رحلتي في البحث.

أول ما وجدته هو كتاب مسموع تحت مسمى «The Story of Ahikar»، ونوع القصة كان تحت مسمى الخيال الديني، والذي أثار فضولي أكثر، أن التعريف يقول إنه أخذ هذه المطبوعة من الإصدارات الآرامية والسريانية والعربية والأرمنية والإثيوبية والتركية القديمة واليونانية والسلافية، وحررها«F.C. Conybeare, J. Rendel Harris, and Agnes Smith Lewis»، وإنه ـ حسب قولهم ـ تم إنقاذ القصة من ألف ليلة وليلة وإعادتها إلى «الأبوكريفا» في الكتاب المقدس، تم إنقاذها؟!

هل كانت سجينة أم مسروقة أم مُحرَّفة؟! أم أنها كانت تعتبر عندهم أنقى من أن تكون في محيط تغلب عليه الأخلاق والمفاهيم المشوهة، التي هي أقرب إلى الرذيلة، وفوق ذلك أنها ترجمت عن السريانية بعربية عامية مكتوبة بالحرف السرياني، بمعنى آخر لم تكن مترجمة بلغة عربية فصيحة، بل كانت مترجمة بلغة عربية مشوّهة.

حتى نبدأ على صفحة بيضاء وتكون الرؤية واضحة،«الأبوكريفا» هي أجزاء من الكتاب المقدس لا تعترف بها عدة طوائف من الكنيسة، بمعنى أنها بالنسبة إليهم تعتبر مجرد سلسلة من أدب الحكمة، قد تكون حدثت بالفعل، وقد لا تكون قد حدثت، ولكنها تحمل قصصًا وعبرًا وحِكمًا، وبعد أن أصغيت إلى المقاطع الثلاثة للكتاب، وجدت أنه راقٍ جدًا، بل إن رسالة التوحيد تتردد من أوله إلى آخر كلمة فيه؛ يبدأ باسم الله، وينتهي بحمده.

لم أتحدث بعد عن المضمون، صبرًا، هنا بدأت أتساءل: لماذا كل هذه المصادر المتنوعة لقصة واحدة؟ وأخذت أبحث حتى عدت إلى أقدمها، وهي المخطوطات الآرامية التي اكتشفت في جزيرة الفيلة في مصر، ووجدتها في الكتاب، وعنوان المقالة من عنوانه، للمؤلف «أنيس فرنجية» عام 1962، ومنه وجدت مصدر الترجمة الأولى للنص الآرامي للمؤلف البريطاني «Arthur Ernest Cowley»، تحت مسمى «البردية الآرامية من القرن الخامس قبل الميلاد»، وهي الترجمة الحرفية لإحدى عشرة بردية تحمل قصة «أحيقار»، بالطبع كانت الترجمة مرهقة وصعبة لعدم التمكن من قراءة كل الكلمات، فبعضها غير واضح وبعضها مقطوع، بالنسبة إليَّ كان من المهم أن أعرف كيف بدأت القصة؟ وأين انتهت؟ وما هي الحِكم التي ذكرت فيها، حتى أحدد كل ما تمت إضافته عبر العصور من قبل رواة القصة الذين تناقلوها من حضارة إلى حضارة، ومن قارة إلى قارة! عندما أصغيت إلى الكتاب وصلت إلى الحِكم التي كان «أحيقار» يعلمها لابنه، وشعرت حينئذ بأنني قد أكون سمعت الكثير منها، وذلك من خلال الأمثال الشعبية التي كنَّا نسمعها تُردد على ألسنة أجدادنا منذ القدم، وما زالت، أمر عجيب! كيف وصلت إليهم حِكمنا؟! ولكن فيما وجدت، وبما أن تاريخ قطع البردي كانت تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ومن مراجعة ما كتب عنها من قبل الخبراء، أنه

لا بد أنها نقلت من الآشورية إلى الآرامية، وأن أحداثها كانت على الأقل قبل مئة وخمسين عاما من تاريخ النسخة الآرامية، أي بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وأنها لم تصدر من عِندنا، ولكن تنقلت بين تراث الشعوب، والكل قد أضاف إليها، حتى وصلتنا وأضفنا إليها بالطبع ووضعنا بصمتنا، وانتقلت من قصة وثنيّ إلى قصة موحّد، وليس هذا بغريب، فالقصص الخرافية عادة ما تتنقل وتأخذ طابع التراث والمجتمع الذي يحتضنها.

كَتَبَ المؤلف «فرنجية» أن القصة في الأصل تقف عند إخبار الملك الآشوري «اسرحدون» بموت وزيره وحامل أختامه «أحيقار»، وتبدأ القصة بسرد الوزير قصته، بالتعريف بنفسه وملكه، وكيف تَبنى «نادن» ابن أخته بما أنه لم يكن يستطيع الإنجاب، وعلمه الحكمة ودفعه ليأخذ مكانه عند الملك، ولكنه خان الأمانة وحرض الملك عليه بالوشاية الكاذبة، مما أغضب الملك وطلب من السياف «نابوسومسكن» البحث عنه وقتله، وعندما وجده في الكروم ذكَّره بمعروف كان قد أسداه إليه من قبل، حيث إنه أنقذه من الموت عندما طالب «سنحاريب» والد «اسرحدون» بقتل السياف فخبّأه ولم يقتله، وطلب السياف من رجاله أن يقتلوا عبدًا لديه كان قد حكم عليه بالموت بدلا من «أحيقار»، وعندما حضروا في مجلس الملك شهدوا بأنه تم تنفيذ الأمر، بينما هو قد اختبأ في بيت السيَّاف: هنا تقف القصة ويبدأ الجزء الثاني الذي يحتوي على حكم متتالية تبدأ بــ «يا بنيّ»، وإليكم نماذج منها:

1. إنك إذا علّمت ابنك وأدبته ووضعت قيدًا في رجله فإنه ينجح.

2. يا بني، لا تكن ثرثارًا، ولا تنطق بكلمة قبل أن تفكر فيها، لأن لكل مكان آذانًا وعيونًا، راقب فمك لئلا يكون سبب هلاكك، ما تسمعه أقفل عليه صدرك، لأن الكلم كالطائر إذا أفلت من القفص فإنه يعسر عليك أن تقبض عليه ثانية، فخ الفم أشد خطرًا من فخ الحرب.

3. لقد ذقت الحنظل المر، ولكني لم أجد أمرّ من الفقر.

4. لا تكن حلوًا فيبلعك الناس، ولا تكن مُرًّا فيمجّك الناس.

5. إذا أردت أن ترتفع فتواضع أمام الله الذي يخفض المرتفع ويرفع المتواضع.

ومن الترجمة السريانية (مخطوطة كيمبردج، رقم 2020) وهي ثلاث وسبعون حكمة، (غير القائمة في نهاية القصة والتي تعكس معاني الخسة والدناءة والخيانة)، جاءت بعد سرد مفصل للقصة، وأضيف إليها تباري ملك آشور مع ملك مصر في الأحاجي وبراعة «أحيقار» في حل هذه الأحاجي، وقصة نجاته، وعقاب «نادان» على خيانته الأمانة وعدم تقديره للنعم التي كانت بين يديه.

1. يا بنيّ يأكل ابن الغني حيّة فيقول الناس: للشفاء أكلها، ويأكلها ابن الفقير فيقول الناس: من جوعه أكلها.

2. يا بنيّ، انظر بعينيك إلى أسفل، واخفض صوتك، وتطلع إلى تحت، فإنه لو كان المرء يستطيع أن يبني بيتًا بالصوت العالي المرتفع لكان الحمار يستطيع أن يبني دارين في يوم واحد، ولو أن القوة الشديدة (وحدها) هي التي تجر المحراث لكان النير لا يفارق كتف الجمل.

3. يا بنيّ كل نصيبك، ولا تهزأ بجارك.

4. يا بنيّ إن جابهك عدوك بالشر فجابهه أنت بالحكمة.

5. يا بنيّ، لا تجلب عليك لعنة أبيك وأمك وإلا فإنك لن تفرح بنعمة بنيك.

«أحيقار الحكيم» قصة تناقلتها الشعوب، فحملت ما حملت من كل منها، ونثرت طيبها حيثما ذهبت من عِبر وحِكم تناقلتها الأجيال في التراث الشعبي أينما حلت.