الأوراق في المنطقة بل في أرجاء العالم اختلطت بعضها بعضا، والأولويات اختلفت وانقلبت رأسا على عقب. لا المهم بات ذا أهمية، ولا فاقدها بات يفتقدها. إعادة التموضع جارية على قدمٍ وساق، والتاريخ يعاد كتابته من جديد.

العالم بأسره يعيش في نفقٍ مظلم، حتى الأزمات التي كانت تعانيها الحكومات والإنسان لم تعد كما هي. دفعت آفة كورونا إلى إعادة رسم الاهتمامات والأولويات. لم تعد البطالة الهاجس لدول العالم الأول والثاني والثالث، بل حتى النامية والمعدومة. لم يعد الإرهاب الخطر الأول المحدق في أرجاء الدنيا.

سماسرة المال انشغلوا بالانكسار والكساد الذي تسببت به الجائحة. عقارب الإرهاب تراجعت إلى الوراء، بحثا عن حياة علي الرغم من معاداتها الحياة. والطائفيون انكفأوا إلى جحورهم.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى النشاز السياسي حاضرا بضوضائه، والمُزايدون برزت مُزايداتهم. تحوز منطقتنا النصيب الأكبر من خوائهم ونعيقهم. لم يُراعوا أن ظروفا طارئة وقاسية أصابت العالم بالهلع. لا تهمهم الحياة ولا الإنسان. اللهفة وراء السياسة ومكاسبها ونشوة انتصاراتها قادت لانقسام المنطقة – أقصد محيطنا القريب - إلى فسطاطين: فسطاطٌ يُعرف بـ«الاعتدال»، والآخر بـ«الشيطنة». الأمر مشابه للانقسام الذي تسبب به هتلر «عرّاب الحرب العالمية الثانية»، إذ انقسم العالم إلى معسكرين، قام أحدهما على ركام الآخر، وذهب الرجل – أي هتلر – ضحية نفسه بعيارٍ ناري من مسدسه الشخصي، قضى نحبه نتيجة براغماتيته المُميتة، وانتهى، ولم يعد يذكر التاريخ من فصول حياته إلا الدموي منها. قوى الاعتدال، وعلى رأسها المملكة، اثبتت اعتدالها، على الرغم من الصبيانية السياسية التي تسير وفقها دول باتت معروفة في المنطقة، إلا أن الحكمة السياسية السعودية تتسيد جميع المواقف وردود الأفعال، وتؤخذ بعين الاعتبار، وتُتخذ كمنهجية من قبل دول الخليج «باستثناء الدويلة».

ولا يفوتني، بموجب الحديث عن الاعتدال، أن أتجاهل مصر التي استعادت تدريجيا دورها السياسي بعد فترة من الركود والانكفاء، لانشغالها في الشأن الداخلي. في مقابل، شكل الاعتدال السياسي ينشط المحور الثوري، الذي وعلي الرغم مما دب في العالم، فإنه ماضٍ في تكريس انغماسه بمنهجيته. تزداد التخبطات والتهور والإسفاف السياسي القادم من طهران وأنقرة والدوحة، والجناحين الصغيرين «حزب الله في لبنان، وحماس في غزة»، وتتضاءل القيمة السياسية والمعنوية للملفات التي تنتهج تلك الدول النضال عنها، وربما التسلق عليها. فقدت تلك الدول ثقة الرأي العام في المحيط والعالم. لم يعد لها قيمة لا معنوية ولا سياسية.

ولفهم المعادلة نحتاج للنظر في التخبطات الإيرانية والتركية التي نشطت أخيرا. أتفهم جيدا أن الجنون الإيراني عبارة عن ردود أفعال نتيجة تلقيها الفترة الماضية أكثر من ضربةٍ موجعة، إذ تعرضت للقمع من قبل سلاح الجو الإسرائيلي عشرات المرات بعد أن رمت بثقلها في الأزمة السورية.

قتل عشرات الجنرالات من الحرس الثوري ممن زجت بهم في ساحة الاقتتال، سعيا لإنقاذ نظام بشار الأسد في دمشق. ذهب الآلاف من أدواتها من «زعران حزب الله» في سوريا أيضا، وكان مقتل قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني صفعة تردد صداها في أوساط جمهورها ومؤيديها. وفي الداخل الإيراني، كُسرت هيبة الدولة، وبات أركان النظام في نظر المواطن الإيراني عبارة عن تُجار شعارات أو أشبه بفرقة ضابطي إيقاع لا أكثر. ويمكن قياس السياسة التركية في أنقرة على التجربة الإيرانية، حيث كشفت محاولة الانقلاب على نظام رجب طيب أردوغان عن رغبة جامحة للقمع والتشبث بالسلطة. سقط هو الآخر من نظر المواطن التركي المُمتعض من سياسة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه «خليفة المسلمين». سقط أيضا من نظر المجتمع الدولي عقب متاجرته بملف لاجئى سوريا، واستخدمهم فزاعة لنفعيته ومكاسبه الشخصية. يضاف إلى ذلك فتحه أبواب جمهوريته لجهات التطرف في سوريا، للاستفادة من النفط السوري الذي سيطرت عليه جماعات متطرفة.

والأحزاب السياسية التي تعارض الزعيم الأقوى والأوحد تعاني تضييقا في المأكل والمشرب. المعتقلون سياسيا بمئات الآلاف، وحزب العمال الكردستاني يعيش تحت هدير طائرات الـ«أف 16» التركية، بينما تُجاهر الإدارة التركية بنصرة «الإخوان المسلمين» في مصر، الذين سئمهم الشعب المصري وأسقطهم بكامل إرادته، وتسعى لإنعاشهم في ليبيا. وفي دويلة قطر، التي انقلبت على المبدأ الأخلاقي الخليجي على حساب موجة محور «الشيطنة الإيراني – التركي»، تُدرك «شرق سلوى» أن المواطن القطري، الذي يعيش حالة من التغييب ليتصدر المشهد بعض المرتزقة، غير راضٍ عن سياسة دولته، ولا سيما الخارجية منها، وتحديدا التخبط والاستكبار الذي قاد إلى قطع العلاقة مع المملكة، كونه ذا ارتباط اجتماعي وقبلي بجذور سعودية.

تلك أحد أبرز بشاعات السياسية القطرية التي لم تراعِ الانتماءات التي يعود إليها الإنسان القطري الأصلي وليس المستورد. بالمُحصلة، نحن أمام محور معروفٌ ومشهودٌ له بالاعتدال والتوازن، تمثله المملكة ومصر ودول الخليج بعيدا عن «شرق سلوى»، وأمام شبكة مُتضادين عقائديا، مختلفين بالعموميات والعناوين العريضة، يلتقون في دهاليز مُظلمة وفي أعشاش الدبابير، يُجيدون القفز على إرادة الشعوب وعواطفهم عبر إدعاء النصرة والتباكي بلحن المظلومية. تلك أبشع صور السقوط السياسي والإنساني.

لن يُدركوا هذا المعنى إلا حينما تصيبهم اليقظة العقلية، حينها سيصابون بالرعب. يسألون الله البعد عنها، ونسأله القرب منها، ليكتشفوا حقيقتهم وحقيقتنا التي لا نخشاها.

والحقيقة ثلاث: ما نراه، ويرونه، والحقيقة.