الفساد يقابله الإصلاح، ويُطلق على كل عمل تخريبي مُضر، سواء بالبدن والنفس أو بالمجتمع والأفراد أو بالمال العام والخاص، أو بالمؤسسات ومقدرات الوطن، بل كل إفراط وتفريط في المسائل الفردية والاجتماعية هو مصداق للفساد، وورد الفساد في كثير من الآيات القرآنية مقابل الإصلاح، «الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون»، وقوله «والله يعلم المفسد من المصلح»، وقوله تعالى «وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين»، صدق الله العظيم.

يُذكر الفساد في التعبير عن الاضطراب والخلل في الأداء الكوني لما يخلفه من تبعات، لقوله تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»، وذلك جميعه يؤكد أن النفس البشرية أمَّارة بالسوء، وأن الحياة بجميع مكوناتها تحتاج لضابط يقنن مساراتها، ولنظام يحكم أفعالنا، ولاعتقاد ويقين يوجه سلوكياتنا ويحفظها من الانزلاقات في جميع شؤوننا الروحية والمادية.

تبذل الدولة جهودًا حثيثة، عبر مؤسساتها المعنية بمكافحة الفساد بأشكاله، وفي ذلك إدراك لعمق تأثيره المخرب، وملامسة شفافة لدوره التدميري في عرقلة ما نسعى إليه من منجزات، وما نتطلع إلى تحقيقه من مستهدفات تنموية ينعم بها الوطن، إذ تقوم الجهات المسؤولة برصد المخالفات ومحاولات الالتفاف على النظام العام والتشريعات، بالمتابعة والتحقق من مصدر الخلل والتخريب في منظومة ما، بهدف الإصلاح والردع نحو الجادة والمسار الصحيح، وبالحوكمة والمساءلة والعقاب، نحصد الاعتدال في الأعمال والسلوكيات، وتنتظم الحياة في إطار تشريعي قانوني ضابط لانحرافات النفس البشرية.

للفساد مستويات مختلفة في حجم التأثير، له درجات وأشكال من القدرة على النفاذ بين مكونات البيئة المحيطة أو في المنظومة والكيان الذي يحتضنه، فقد ينحصر ضرره على الفرد ومحيطه الأسري، عند عدم الالتزام -على سبيل المثال- بالقواعد الصحية في الأكل أو أسلوب الحياة، أو غير ذلك من متطلبات الحياة اليومية، فتكون مسؤوليته محدودة وضرره منحصرا، ولكن عندما يمتد تأثيره الضار وتخريبه الجارف، ليلحق بالمجتمع ومقدراته والوطن ومكتسباته؛ فإن المسؤولية تصبح مضاعفة لمواجهته، والحزم يبلغ أشده في محاكمته وعقابه، لأنه عاث فسادًا فيما لا يملكه، ليكون رادعًا لمن تسول له نفسه بأفعال مشابهة أو تصرفات مخيبة للآمال في مستحقات مجتمعية وتطلعات وطن.

مسؤولية محاربة الفساد؛ ليست قاصرة على جهة معينة أو هيئة تُعنى بمكافحته وحوكمته إداريًا وقانونيًا فحسب، وإنما هي مسؤولية مجتمع وأفراد، أيًا كان منصبهم وأيًا كان موقعهم في المجتمع، فالجهات المسؤولة رسميًا لا يمكنها أن ترصد المخالفات القانونية والاختراقات الملتفة على النظام، إلا بمعاونة ومساندة من أفراد شرفاء غيورين على حق الوطن والمواطنين، يشعرون بشرف الانتماء والولاء ويقدسون حق المواطنة وواجباتها، وقبل ذلك يخافون الله ويتجنبون عقابه، تردعهم نفوسهم وقلوبهم قبل جوارحهم، عن الخوض في مواطن الفساد أو الانحدار إلى ميدانه المقيت ومسالكه المظلمة.

وكما أن المُفسد لا يمكنه إجراء مخالفاته وتعدياته بصورة منفردة، ودون مساندة ودعم من فريق عمل مشترك وأذرع متعددة وزبانية يخدمونه؛ فإن المُصلِح كذلك لا يمكنه ضبط واحتواء تلك الاختراقات، إلا بمساندة ودعم مشترك من أفراد يتحلون بالنزاهة، يخشون الله ويستشعرون حجم المسؤولية ويحترمون الثقة التي منحت لهم، ويحرصون على مقدرات الوطن ومنجزاته من الهدر والاستلاب، أكثر من حرصهم على مناصبهم، أو خوفهم من بطش هؤلاء الذين خانتهم نفوسهم وخذلتهم ضمائرهم فخانوا الأمانة، ونكسوا العهد والميثاق، ولم يرقبوا في الله إلاً ولا ذمةً في حق الوطن، لقوله تعالى: «كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمةً يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون».

الفساد في حقيقته مشروع تدميري وسلاح هدام ومعول خطير يفتك بجسد الوطن، ويقاوم الإصلاح ويستهدف إفساد التنمية العامة والنخر في مكتسباتها؛ لصالح نفوس ضعيفة وعقول مظلمة وقلوب منحرفة؛ آثرت منافعها ومكتسباتها الذاتية، على مصالح الوطن ومكتسباته، نفوس تقتلها الأنانية والجشع، ويتعاظم منها الضرر عند استغلال المناصب التنفيذية، التي تشرفوا بها تكليفاً لخدمة الوطن؛ لتتحول إلى مراكز قوة داعمة لهم لتنفيذ مآربهم السوداوية وتطلعاتهم القاصرة، فيخسرون أنفسهم ويخسرون الوطن، ويقول سبحانه وتعالى«الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون».

محاربة الفساد وقطع أصوله، يقتضيان اجتثاثه من جذوره التي يرتكز عليها، واقتلاعه من التربة التي تغذيه ومن الماء الذي يرويه، ويكون ذلك عبر جملة من القوانين الضابطة والتشريعات الحازمة في متابعة تصريف الأمور ومساراتها من جهات مختلفة، وتنفيذ العقوبات والحوكمة في كل ما يتصل بالمخالفات الإدارية والمؤسسية والمالية، بل وكل ما يعتبر تجاوزا لمستحقات الوطن والمواطنين، وكل ما يُفسر أنه استخدام للمنصب وتسخيره لتحقيق مصالح خاصة بعلاقات مبطنة أو مشبوهة.

نسأل الله الثبات في القول والعمل ونرجوه الاستقامة في أداء ما نتحمله من مسؤوليات، وما نسعى إلى تحقيقه من تطلعات تخدم الوطن، وأن يلهمنا الصواب والجادة الراجحة في أمور الدنيا والآخرة، وأن يسخرنا لمحاربة كل نافذة تهب منها رياح الفساد، لنُسهم في إغلاق كل باب يكون مدخلاً إلى جني مصالح على حساب الوطن والمواطنين، أو يكون سبباً في مضرة عامة ومدعاة لفساد مجتمع أو وسيلة لهدم مقدرات وطن.