تتجاوز وصمة المرض النفسي حدها الاتجاهي السلبي الفردي والمجتمعي، لتترجم إلى داء «مرضي» يمنع الذين يعانون عوارض نفسية من السعي لطلب العلاج، تعمق معاناة الذين يعانون اضطرابات نفسية، لتزداد سوءاً، لسوء جودة حياة، تساهم في الحفاظ على الاضطراب النفسي «نشطاً» رغم وجود العلاج، تؤدي إلى النكسات المرضية «Relapses» المتكررة، وتمثل عبئًا ثقيلاً على المريض نفسه وأسرته والنظام الصحي برمته، من هنا كانت «الوصمة» مرضاً بحالها وتحتاج لتدخل علاجي للقضاء عليها «Destigmatization»، كنتيجة للتعاطي العلاجي الناجع مع وصمة المرض النفسي بمهنية وبرامج ذات العلاقة بها، تم إغلاق العديد من المصحات النفسية في الغرب، وأصبح المريض العقلي خصوصاً، يتعالج من خلال مراكز الرعاية الصحية الأساسية المدمجة والصحة النفسية المجتمعية. لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية من هذا الداء العضال «وصمة المرض النفسي»، ولكن هناك اختلافاً لا شك في الدرجة، لذا نالت وصمة المرض النفسي اهتماماً كبيراً من قبل الباحثين والمهنيين وصناع القرار الصحي بهدف القضاء عليها نتيجة ما تفرزه من أثر بالغ على تنمية وتعزيز الصحة النفسية وطرق الوقاية من أمراضها، وكذلك علاجها.
يعاني مجتمعنا داء وصمة المرض النفسي كبقية المجتمعات الأخرى، ففي عام 1997، قمت بنشر بعض الأبحاث العلمية بالدورية العالمية للطب النفسي الاجتماعي «IJSP» حول وصمة أحد الأعراض العقيلة شيوعاً، وهو «الهلوسة السمعية» لدى مرضى الفصام بين عينة من المجتمع البريطاني والسعودي، وكذلك المهنيين النفسيين في المجتمعيين، وكانت النتائج أن وصمة المرض النفسي لدينا عالية بين العامة، وحتى مهنيي الصحة النفسية كذلك، في عام 2008، قمت بدراسة في ذات السياق منشورة بالدورية العربية للطب النفسي حول اتجاهات طلبة الطب نحو المرض النفسي قبل بداية تدريبهم «Clerkship» في الطب النفسي، وبعده، النتائج أشارت لوجود وصمة المرض النفسي لديهم قبل وبعد انتهاء التدريب، وهذا يعني أن التدريب لم يكن فعالاً في تغيير اتجاهاتهم نحو المرض النفسي بعد انتهائه وطلبة الطب هم في الأصل شريحة اجتماعية، يمثلون بقية العامة والنتيجة تعود للامتداد الاجتماعي الذي لم يؤثر فيه التدريب.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلقد قامت الباحثة والأخصائية النفسية في المجال العيادي «أبرار الدويش» وأنا بنشر بحث علمي قبل عدة أيام في دورية طب المخ والأعصاب «EC Neurology» عن وصمة المرض النفسي في الصحة النفسية لعينة سعودية، والتي تناولت مفاهيمهم نحو مسببات المرض النفسي وطرق علاجه، وكذلك اتجاهاتهم في البعد الاجتماعي من حيث التعاطي مع المريض النفسي اجتماعياً، وأشارت النتائج إلى تقدم ملموس في فهم مسببات المرض النفسي وطرق علاجه مقارنة بما تم نشره في عام 1997، لكن البعد الاجتماعي لم يتغير خلال عقدين من الزمن وزيادة والذي يفضي لوجود «داء وصمة المرض النفسي» في مجتمعنا، لم يتغير ولم يتبدل والذي يمتد شراره الحارق لتأخر قطاع الصحة النفسية في حللها التنموية والتعزيزية والوقاية والعلاجية.
تشير مثل هذه النتائج البحثية لقصور في وجود برامج توعوية نفسية هادفة ومدروسة، تستهدف التعاطي مع وصمة المرض النفسي بالقضاء عليها، لتحقيق مبدأ الصحة النفسية المستديمة للجميع والإقلال من الهدر الصحي العلاجي وعلاج المريض النفسي في نسيجه الاجتماعي والتعامل معه كإنسان لديه مرض قابل للشفاء والعلاج وتقبله وتسهيل ما من شأنه المساهمة في صحته النفسية وتسهيل الوصول للخدمة النفسية عند الحاجة وتنمية الصحة النفسية وتعزيزها، القضية أعزائي أشمل وأكبر من مجرد البعد العلاجي، والذي لا يخلو من القصور، لتشمل البعد التوعوي النفسي.
لي وطيد أمل أن أعمل بحثاً رابعاً خلال فترة زمنية قصيرة، لأرى أن وصمة المرض النفسي قد بترت بيد «جراح نفسي ماهر» يعلم أن الصحة النفسية لا تعني الخلو من المرض، وإنما حالة من التوافق النفسي الشامل، وأنه بالإمكان جعل عامة الناس أصحاء، بل سعداء، وأنه بالإمكان الوقاية من المرض النفسي وأنه قابل للعلاج عند ظهوره، وأنه ليس هناك حصانة من المرض النفسي لأحد، يأتي الجميع في ثنايا بتر «الوصمة الاجتماعية الجائرة» الملحقة بالمرض النفسي، دمتم بصحة نفسية مستديمة.