بات الحديث عن التطرف والمتطرفين اليوم من المواضيع الساخنة في الساحة الفكرية والثقافية وفي كل منصات التواصل الاجتماعي، حتى صار منافسًا للجدل الدائر حول الانتخابات الأمريكية، فظاهرة التطرف اليوم من القضايا المقلقة لكل حكومات العالم، وقد تناولها بعض من الباحثين الغربيين بدراسات تأصيلية متعمقة للتوصل للأسباب المؤدية للتطرف وتقديم العلاجات التي تحد من تفشي هذه الظاهرة، فهي ظاهرة إنسانية معقدة للغاية وذات أبعاد متداخلة وعوامل عديدة، ولا شك أن هناك دراسات غربية حديثة جديرة بالاهتمام والتقدير تناولت ظاهرة التطرف من جميع جوانبها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وغالب هذه الدارسات تربط ظاهرة التطرف بظاهرة ملازمة لها إلى حد كبير، وهي ظاهرة الاستقطاب (Polarization) التي تغيب تمامًا عن أطروحات كثير من الكتاب والمثقفين العرب.

للأسف أغلب أطروحات الكتاب والمثقفين العرب استغلت ظاهرة التطرف لتوزيع الاتهامات فانقلب الحديث عن التطرف إلى ساحة لتصفية الحسابات بين التيارات المتصارعة، فكثيرًا ما تجد من يربط التطرف بشخصية من شخصيات التراث أو فتوى من فتاويه لإغاظة أتباعه، أو محاولة إلصاق تهمة التطرف بثقافة بعينها، وكأن التطرف متأصل في جينات أفرادها يورثه الأسلاف للأخلاف كما يورثونهم لون العينين والشعر والبشرة، فقد بلغ التعاطي مع ظاهرة التطرف في الساحة الثقافية العربية درجة متفاقمة من التسطيح والتبسيط لدرجة أن هناك من يربط التطرف بأبيات معدودات من قصيدة لأحد الشعراء في العصر العباسي.

تطور الأفكار وتحولها عملية مركبة ومتداخلة لا تحدث في ثقافة بمعزل عن ثقافة أخرى، فالمجتمعات البشرية متنوعة ثقافيا وبسبب تواصلها وتنوعها الثقافيين فإن الديانات نفسها يتأثر بعضها ببعض فلا يمكن أن نتعامل مع ثقافة وكأنها تسير في خط زمني مستقل عبر التاريخ دون تأثر بغيرها، فليس من المنطق اتهام ثقافة بعينها أو مذهبًا فلسفيًا بعينه أو تراث ديانة ما وتحميله تبعات التطرف في العصر الحديث، فالتطرف ظاهرة ليست بسيطة لهذه الدرجة حتى نقرر بيقين عن القصيدة المتهمة أو الثقافة المذنبة التي تسببت بكل هذا الكم من التطرف حول العالم.

عالم المتشددين والمتطرفين واحد، يتداخل مع كل الأيديولوجيات والثقافات وليس من السهولة أن نحدد مصدرًا وحيدًا للتطرف لأن مصادر التطرف متعددة ومتشعبة ومتداخلة في الوقت نفسه، فالمجتمعات البشرية كما أسلفنا متنوعة في أفكارها ونمط معيشتها وقيمها الثقافية، وضمن سياق الحياة اليومية فإن أفكار الناس يغلب عليها البساطة ولا تميل للتطرف، إلا عند حدوث حالة استقطاب داخل المجتمع، ومن هنا تتحول الأفكار البسيطة إلى أفكار متطرفة ثم تنقلب هذه الأفكار المتطرفة إلى حركة تحمل رسالة ذات ديناميكية مؤثرة قادرة على استقطاب العناصر الجديدة.

يقول أستاذ القانون في جامعة هارفارد «كاس سينشتاين» في حديثه عن ظاهرة التطرف: «يميل الأفراد المتشابهون في التفكير إلى الانتقال لصورة أكثر تطرفًا لما كانوا يفكرون فيه قبل أن يبدؤوا الكلام. في ضوء ذلك لنفترض أن جماعات مغلقة من الأفراد تميل للتمرد أو حتى العنف، وأنها مفصولة عن غيرها من الجماعات، فقد تتحرك هذه الجماعات بحدة اتجاه العنف نتيجة انعزالها الذاتي، وغالبًا ما تكون التطرفية السياسية إحدى نتائج استقطاب الجماعة، كما أن الانعزال الاجتماعي أداة أساسية لإحداث الاستقطاب».

طرح سينشتاين فكرته حول التطرف بعد أن ربطها بمفهوم الاستقطاب، وهذا الاستقطاب يكون عبر حديث مغلق بين أفراد متجانسين في طريقة التفكير في بيئة منعزلة عن المجتمع، بعد أن تقوم الجماعة المتطرفة بتشجيع أعضائها على الانفصال عن أسرهم وأصدقائهم والتمرد على مجتمعاتهم وأوطانهم حتى تصبح الجماعة هي عامل التغيير المسيطر في حياتهم، ومن هنا يشعر الشخص المستقطب بأن انضمامه للجماعة يمنحه أهمية ويبعث بداخله حماسة لا حدود لها، لذلك يحاول أن يتمرد على المجتمع والأسرة وعلى وطنه وأبناء وطنه لأن تمرده ضد وطنه أصبح حركة نضالية وتحررية بالنسبة له.

كيف يصنع الاستقطاب من الأفكار البسيطة أفكارًا متطرفة، وكيف يتحول الإنسان المعتدل إلى إنسان متطرف؟ حسب سينشتاين فإن الأفراد الذين يحملون أفكارًا متشابهة ومتجانسة عندما يتبادلون الحديث في مجتمع مصغر منعزل فإن أفكارهم وهويتهم تتعزز وتترسخ.

ويتم بذلك تمسكهم بأيديولوجية الجماعة المتطرفة مع التنديد بأي آراء مخالفة أو بديلة حول الواقع وإبعاد تلك الآراء عن عقولهم، فيتحول حديثهم إلى خطاب كراهية وأفكارهم البسيطة إلى أفكار متطرفة، فالاستقطاب يؤدي إلى سوء الفهم، وبالتالي فهم النصوص بشكل محرف وخارج عن سياقه الحقيقي.