إن من أعظم خصائص دين الإسلام، أنه دين عبادة العبد لربه عز وجل في كل تفاصيل حياته، في بيته مع أهله وأبنائه، وفي عمله وسوقه وحقله، وفي صحبته وذوي رحمه، وفي جيرته ومَنْ قَرُبَ منه أو نأى عنه، وفي طريقه والمارين به والجالسين على قارعته، ومع دابته التي يتنقل عليها، ومع البهائم والدواب والطيور وخشاش الأرض، ومع ما يحدث في هذا الكون من ظواهر خير، كالمطر والرياح والخصب، أو ظواهر سوء كالكسوف والخسوف والزلازل والأوبئة، وغير ذلك كثير، خلاصته أن تعاليم الإسلام لا تترك أي تفصيل من تفاصيل حياة العبد، إلا ولها فيه أحكام أو آداب أو أذكار أو حِكَم، تجعل العبد دائم الشعور بالاتصال بربه سبحانه وتعالى، دائم العبادة له اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.

وكل ذلك لا يكون، إلا حين يكون كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما مصدر التشريع، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إنِّي أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معهُ، لا يُوشِكُ رجُلٌ شبعانٌ على أريكتِهِ يقولُ عليكُم بِهذَا القُرآنِ فما وجدتُم فيهِ مِن حَلالٍ فأحلُّوه وما وَجدتُم فيهِ مِن حرامٍ فحرِّمُوه، ألا لا يحلُّ لكُم لحمُ الحِمارِ الأهليِّ، ولا كلِّ ذي نابٍ من السَّبُعٍ، ولا لُقَطةِ معاهَدٍ، إلَّا أن يستَغني عَنها صاحبُها، ومَن نزل بقومٍ فعليهِم أن يُقْرُوه، فإن لَم يُقْرُوه فله أن يُعْقِبَهُمْ بمثلِ قِرَاه»

فالمثلية بين الكتاب والسنة كما في هذا الحديث ليست في البلاغة والإعجاز، لثبوت تفرد القرآن بذلك من طُرُقٍ أُخَر، وإنما في إثبات التشريع كما يتبين من سياق الحديث، الذي أوضح أحكاماً ليست في كتاب الله تعالى، واختصت بها سنته، من حرمة لحوم الحمر وذي الناب من السباع وحرمة اللقطة، وحق الضيف.

فمعظم أحكام الإسلام التي تحقق هذه الخصيصة، أعني خصيصة مَعِيَّة الإسلام للعبد، في كل تفاصيل حياته وعلومه وتصوراته، هي مما تثبته السنة النبوية، لاسيما الصحيح منها بذاته أو بغيره، بحيث لو أسقطنا السنة من مصدرية التشريع، لذهبت هذه الخصيصة التي حقيقتها بيان القرآن، أي تقييد مطلقه وتخصيص عامه وتفصيل مجمله، كما قال الله تعالى ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾، وأحسب - والله تعالى أعلم - أن في ختم الآية الكريمة «ولعلهم يتفكرون» إخبارا إلهيا، بما وقع جراء عناية الأمة بالسنة النبوية من إعمال الفكر في جمعها، والتحقق منها، وابتكار العلوم العظيمة في دراستها من علوم الإسناد والجرح والتعديل وعلم العلل، وعلم أصول الفقه والفقه وعلوم اللغة، التي كانت في معظم مباحثها خادمة للسنة النبوية، حتى غدت السنة بها أعظم مجالات الفكر الإسلامي قديمه وحديثه.

وقد ظهرت دعوات عدم الاحتجاج بها، والاقتصار على القرآن، من عصور قديمة لكنها في الغالب كانت تلبس أردية تستر سوءاتها عن الناس، لتُروجها بينهم كإنكار خبر الواحد في العقائد، أو إنكاره فيما يخالف القياس أو العقل، أما في العقود المتأخرة فقد ظهرت مكشوفة العورة، داعية إلى إنكار السنة وإبطال العمل بها جملة وتفصيلاً، والاقتصار على كتاب الله تعالى دون سواه من سنة صحيحة أو حسنة، أحادية أو مستفيضة، وهي بذلك دعوة لإسقاط الإسلام بالكلية، علم بذلك القائمون بهذه الدعوة أم جهلوا، وبيان ذلك من وجوه:

الأول: أن حقيقة الطريق الذي ثبتت به السنة، هو الطريق الذي ثبت به القرآن، وهو الرواية، فمن يُنكر ثبوت السنة سيؤول أمره إلى إنكار القرآن، وهذا ما حدث عند بعضهم، وإن كان حملة راية هذه البدعة اليوم، يُفَرِّقُون بكون السنة ثبتت بطريق الآحاد، والقرآن ثبت بطريق التواتر، إلا أنَّ هذا الفرق ما أسرع أن تدخل إليه الشبهة، لأن التواتر لا يُمكن إثباته بالأسانيد، إذ إنه نقل الكافة عن الكافة، فلا يجدون إلا أسانيد القراءات، التي حفظها القراء، وهي في نهاية المطاف آحادية ؛ فإذا انتهوا إلى إسقاط القرآن بعد إسقاطهم السنة ذهب الدين كله.

الثاني: أن معظم الأحكام التي تتعلق بالعبد، في يومه وليلته، من عبادات وأذكار، وأدعية وسنن رواتب، وأخلاق وآداب، إنما تثبت بالسنة، وكذلك صفات أركان الإسلام، فرائضِها وواجباتِها، ومندوباتها ومقاديرها وأوقاتها، ليس لها مستند غير السنة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج، لولا السنة لكانت أسماء لا يُمكن معرفة هيئة أدائها، فإذا ُأفْرِغَ يومُ الإنسان من إرشادات السنة، وأُفْرِغت أركانُ الدين من صفاتها وأوقاتها ومقاديرها، فأين الإسلام إذن؟!

ثالثاً: تضمنت الشريعة أحكاماً لتسيير حياة الأمة الإسلامية، من أحكام الجهاد والبيوع والشركات، والقضاء والحدود والجنايات والأنكحة، وحقوق الراعي والرعية وواجباتهما، وأحكام العلاقات بالأمم الأخرى، وليس في أحكام هذه الأبواب، ما مستنده المباشر الكتاب إلا القليل، ومعظم هذا القليل عمومات وإطلاقات، فإذا ذهبت السنة ذهب كل هذا، وبقينا أمة عُطلاً من فقه الحياة، وصرنا حقاً عالة على عقولنا وأهوائنا وأهواء الأمم من حولنا.

وبذلك نُدرك أنه لا حياة إسلامية للفرد والأمة إلا بالدين، ولا دين إلا بالسنة، فمن رام هدم السنة، فليس له مرام على الحقيقة إلا هدم الدين.

وصحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، هو بإجماع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم أعلى كتب السنة المطهرة مقاماً، وذلك لما اختص به من العلو في الترتيب، واختيار الأسانيد والروايات، وفقه الحديث المتمثل في عناوينه التي يضعها للكتب والأبواب، لذلك اعتنى به أذكياء الأمة وأكابر أهل الصناعة الحديثية فيها، من لدن رواية مؤلفه له وحتى يوم الناس هذا، فكانت ثمرة هذه العناية توالي الأجيال العلمية على تزكيته.

فكأن منكري السنة لما رأوا صعوبة تقبل الناس لدعواهم، جَحْدَ السنة بالكلية، أرادوا أن يستروا سوأتهم هذه، ويقتصروا على زعم كون صحيح البخاري ليس كلُّه صحيحاً، وأنه كسائر الكتب، يحتوي على الصحيح والسقيم، فإذا انطلت دعاواهم على الناس في شأن البخاري، فما دونه من مدونات السنة سيكون أولى بقبول النقد، وكأنهم بذلك تعمدوا الذهاب إلى السنة، وفصل رأسها عن جسدها، فإذا سقط الرأس سقط الجسد.

ومنهم من انتقل بسرعة إلى المرحلة الثانية، فكذَّب صحيح البخاري كله من أوله إلى آخره، وهؤلاء هم الأقل خطراً وأثرا، وذلك لظهور عداوتهم للسنة وتهافت شبههم، أضف إلى ذلك كونَهم لم يُعرَفوا بغير الجهل والتسلق، وادِّعاء مالم يُعطوا، ومنهم من الشيعة الاثني عشرية ممن يتضح للناس أن مرامهم تغليب جانب بدعتهم المنهارة على مذهب أهل السنة، فكان في وجود هؤلاء في معسكر نقاد البخاري نعمة عظيمة، أيقظت بعض المنخدعين بالدعاوى، لأن أمثال هؤلاء من أصحاب البدع لا يُقبل منهم نقدٌ لمثل صحيح البخاري، وهم يؤمنون بكتب لا إسناد لها، ولا خطام ولا زمام ولا تستوي على ساق.

لكن معسكر نفاة السنة - ومنهم نُقَّاد البخاري - بكل علاته تضخم، وأصبح ذا عدد وذا مقالة مسموعة في وسائل الإعلام، وينصرهم أيضا قليل من أصحاب المال، والسياسيين ومتخذي القرار في بعض الدول الإسلامية، وذلك لما في بدعة إنكار السنة ونقد البخاري، من عون لأتباع الأهواء والمفتتنين في الدين، من الذين ضيقت عليهم تفاصيلُ الشريعة مجال الهوى، فاستقلوا نطاق المباحات، التي جعلها الله تعالى فسحة وتوسعة لعباده، واستكثروا المحرمات التي هي حدود الله، والمكروهات التي هي ذرائع الحرام، والشبهات التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتقائها، فضاقت عليهم بذلك دنياهم، التي هي مبلغ علمهم ومنتهى أملهم، فكان جحد السنة وعلى رأسها صحيح البخاري، حلاً بزعمهم ليُفرطوا في أمر دنياهم ويُفَرِّطوا في أمر دينهم.

ومن عظيم فضل الله تعالى أن الاحتجاج بالسنة عليه أقوى الأدلة من كتاب الله تعالى، ومن العقل الصريح والنقل الصحيح، وصحيحُ البخاري على وجه الخصوص، على صحته ودقته ورصانة العلماء في قولهم بتقديمه، أبلغُ الحجج في صناعة الإسناد وفي علم الحديث رواية وفي علمه دراية، لذلك لم يستطع أعداء السنة عامة، وأعداء صحيح البخاري خاصة، أن تقوم لحججهم قائمة أمام أدلة السنة وأمام الردود على شبهاتهم، وقد عُني كثيرون بجمع الشبهات، التي انتقد بها صحيح البخاري وبالرد عليها، فكانت كلها موفقة بحمد الله تعالى وفضله ومنته، لكنني أزعم أن كتاب إعلاء البخاري، الذي نشرته دار سلف للنشر والتوزيع، كان له نصيب أوفر من التوفيق، وذلك لعدد من الخصائص التي اتسم بها، ومنها رصده لعدد أكبر من الشبهات التي تناثرت في أماكن متعددة، ما لم يرصد في مكان آخر، ومنها: كونه الأكثر عمقاً في الرد في أكثر المواضع، ومنها: جمعه إلى ذلك يُسْرَ الأسلوب وقربه من أفهام غير المتخصصين في السنة النبوية من المنتسبين للثقافة وادِّعاء الفكر، والذين هم أكثر ضحايا هذه الشبهات.

فكان الكتاب بحق إعلاءً للبخاري - رحمه الله تعالى - وإعلاء لصحيحه.

وتُعِد دار سلف الآن لطبعة ثانية، ورغم الاختلاف الكبير بينها، وبين الطبعة الأولى فقد آثر مركز سلف الإبقاء على اسم الكتاب الذي وُسِم به في طبعته الأولى، وذلك لاشتهار الكتاب به، وأيضا لجمال العنوان وصدق دلالته، وإلا فإن الطبعة الثانية تكاد تكون كتاباً جديدًا غير الأول، وذلك لكثرة ما أضيف إليها من الشبهات التي لم تستكمل في الطبعة الأولى، وأيضا غزارة الردود الجديدة، وإعادة النظر في بعض ما كتب سابقًا وفي ترتيب الكتاب.

الخلاصة أن الدفاع عن السنة ومدوناتها في عصرنا، إحدى جبهات الدفاع عن الدين، التي ينبغي أن تكون ميدانا للعمل، لدى الجهات العلمية والبحثية والإعلامية.