تبوأت قيمة الكرم في الثقافة العربية مكانة رفيعة لا ينافسها سوى قيمة الشجاعة والقوة وشدة البأس، فصارت هاتان الخصلتان، الكرم والشجاعة، متلازمتين في كثير من أشعار العرب التي جعلت من الكرم -تحديدا- في ذروة الشرف، ودعت الآخرين إلى الاقتداء بالكريم والنسج على منواله. فإن كانت القوة والشجاعة مطلبا في العصور القائمة على اقتصادات الغزو والحرب فإن الكرم في تلك الحياة القاسية لا يقل شأنا، لما يضمره من دوافع سامية أهمها الشعور الإنساني المشترك.

عاش العرب في بيئة صحراوية قاسية كان لها أثر كبير في كثرة الفقر والجوع واشتداد الحاجة، فإذا كان الإنسان العربي يؤمن بقيمة الشجاعة لأن نمط الحياة القاسي يتطلب منه القوة للاستمرار فيها في إطار اقتصاد قائم أساسا على الحرب والغزو، فإنه أيضا يؤمن بقيمة الكرم التي تتطلب منه تضامنا وتكافلا بين الأفراد ومد يد العون والمساعدة للآخرين، خشية هلاكهم جوعا وعطشا، لذلك أصبحت قيمة الكرم مركزية في الثقافة العربية القديمة، وأساسا للعلاقة بين الذات والآخر في بيئة صحراوية شحيحة، ومن خلالها يرسخ الأفراد مكانتهم الاجتماعية حتى وإن كان على حساب تجويع العيال.

كيف أصبحت قيمة الكرم بهذه الأهمية بل أصبحت قيمة محورية في سبيل كسب المكانة الاجتماعية والذكر الحسن؟ إن سر تنافس العرب على إيواء الضيف وإطعامه ولو على حساب الأبناء والزوجة، يكمن في طبيعة الحياة الاجتماعية التي عاشوها ونمط الاقتصاد الذي فرض عليهم ضروبا من القيم لا يستطيعون التنازل عنها، فقد كانوا أهل خيام ومضارب وأصحاب إبل وشاه، تدفعهم الرغبة للاحتفاظ بها وتربيتها للترحال في سبيل الحصول على أماكن الكلأ ومنابع الماء، فلا يستقر بهم مكان ولا حال، وفي ظل هذه البيئة الصحراوية الشحيحة فهم معرضون لاشتداد الزمن وقحط الأرض الذي ينتج عنه بالضرورة كثرة الفقر وشدة الجوع بسبب انقطاع المطر، ومن هنا تبرز قيمة الكرم والكرماء لإغاثة المكروبين في الأيام العصيبة، فالكريم هنا ينقذ المحتاج من براثن الموت جوعا ويرد له الحياة من جديد، لذلك نجد الشعراء يغدقون الكريم بأصدق قصائد المديح والثناء.

حياة السفر والترحال وقطع المسافات الطويلة وسط الصحراء القاحلة قد تؤدي بهلاك الإنسان جوعا بسبب نفاد الزاد والمؤونة، فيلجأ الناس بحكم الضرورة باستضافة بعضهم بعضا للحصول على الزاد والطعام والتماسا للنوم والراحة، ومن هنا صار واجب الضيافة من أقدس العادات الاجتماعية عند العرب، حتى أصبح الضيف أحيانا سيدا عند مستضيفه حتى وإن كان منتميا لقبيلة معادية، ولكن كون هذا الضيف لاذ بالمضيف للحصول على الطعام أو الحماية فهذا يعد سببا كافيا ليكون سيدا عند مضيفه.

يقول المستشرق الفرنسي لويس غارديه في وصف هذه الحالة بقوله: «إن الطابع القدسي للضيف يرتبط بالشروط الأولية للحياة البدوية، بهشاشة الإنسان الوحيد على أرض بلا طريق وبلا ماء... البدوي الفقير الذي يقتطع من ضرورياته لكي يكرم الضيف المجهول والمرتقب، المضيف الذي مات ابنه البكر، ولكنه لا يقول شيئا عنه خوفا من التقصير في واجباته تجاه ضيف الليل، العدو، المعروف كعدو، والذي سيحترم ويحمي طالما أنه لامس وتد الخيمة.

إن الضيافة تفترض الغذاء والغطاء. زد على ذلك أن الوجبة التي تؤخذ معا إنما تتسم بطابعها القدسي، وإن تقاسم الماء والملح يربط الضيوف المؤاكلين، فيما يتعدى تناقضات العشيرة أو العائلة برباط الإيلاف».

الضياع والجوع في عرض الصحراء القاحلة من أقسى مظاهر البؤس وأشدها إيلاما، وصورة الكريم المنقذ بمضامينها الإنسانية، بما يوفره الضيف لمضيفه من أسباب الحماية والنجدة وإنقاذه من الموت والهلاك، أعطى للكرم والكرماء مكانة اجتماعية مرموقة لما تمثله من تواصل إنساني غير نفعي مع الآخر، حتى أصبح المجتمع العربي يراه الهدف الأسمى والغاية المثلى للحياة.

تغيرت النظرة نحو الكرم في العصر الحديث، لأن نمط الحياة تغير وتغيرت معه نوعية الضيف، فالضيف الذي كان يلوذ بمضيفه طلبا للحماية وخوفا من الهلاك عطشا وجوعا ليس كضيوف اليوم، وأصبحت طقوس إكرام الضيف مجرد تعبير عن انتماء لموروث قديم وهو موروث يستحق التقدير والاحترام بلا ريب، لما يتضمنه من مشاعر إنسانية سامية ومروءة وإيثار على الذات. فأصبحنا اليوم ننظر لعادة إكرام الضيف أنها عادة غير ضرورية بل نعتبرها (هياطا) لا مبرر له، لأن هجرتنا للمدن القائمة على اقتصادات السوق رافقته تحولات اجتماعية واقتصادية كبيرة عززت الفردية والأنانية عند أفراد المجتمع. مجتمع السوق القائم على الاستهلاك وخلق الحاجات، فرضت على الإنسان نسقا من القيم قائم على المصالح الضيقة وحب الذات المفرط بعد أن سلبته المدينة ذاته وحاصرته بالضغوط، فأصبح إنسانا مستهلكا من الدرجة الأولى، ومن هنا تغيرت نظرتنا لكثير من القيم والمبادئ التي أهمها دون شك قيمة الكرم.