حسب خبر صحفي «قاض يرفض تعويض مواطن قيمة «بضاعة معسل» وهنا مؤشر جديد على اختلاط الفتوى بالقضاء، فالفتوى غير ملزمة وتتغير بتغير «الأحوال والأمكنة والأزمنة والعادات والأشخاص والنيات» بينما القضاء ملزم ومن طبيعته الثبات «قدر الإمكان» ولهذا كانت أقوال «تقنين الشريعة» أرجح من أقوال «ترك الاجتهاد للقاضي».

في هذا المقال نحاول طرح تساؤلات ذات طابع احترازي، محاولين أن نحمل التساؤلات الفقهية والقانونية إلى من هو أفقه وأعلم، فعندما تحاور المتخصصين في المسائل الشرعية والنظامية، يذكرونك دائماً بأن مصدر التشريع هو القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن مما أذكره في كلية الشريعة، حديث يستند إليه علماء أصول الفقه، وهو حديث معاذ المشهور عندما سأله الرسول الكريم: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» والحديث مشهور ويعتبر عمدة الأصوليين في عدة مسائل أهمها القياس، وقيل ضعفه جمع من أهل العلم، وصححه ابن عبدالبر وابن القيم.

والسؤال من خلال حديث معاذ الذي يحتج به معظم الأصوليين، ماذا يقصد الرسول الكريم في قوله لمعاذ: فإن لم تجد في كتاب الله...... وكيف تقول إن لم تجد في كتاب الله وسنة رسوله «أليس في هذا إقرار ضمني بما يراه بعض أهل النظر من أن الشريعة كاملة «وليست شاملة» وقد قال به الإمام الشاطبي في الموافقات، فهي كاملة في مقاصدها، لكنها ليست شاملة لإدراك تفاصيل النظام البحري التجاري مثلاً، والناظر بعد مضي ألف وأربعمائة سنة، وتمدد هدف الدولة القديم الذي لا يتجاوز «حماية بيضة المسلمين، وجمع الزكاة» إلى الدولة الحديثة، التي لن تعتبر دولة حديثة بدون اعتراف دولي، تمثله العضوية في الأمم المتحدة مع توقيع المواثيق الدولية الخاصة بهذا الشأن وفق مفهوم مدني، رفضته «دولة طالبان» مثلاً لتصبح في نظر العالم مجرد ميليشيا متطرفة لا غطاء دولي لها، بينما الدولة الحديثة على المستوى الداخلي في العصر الحديث، تعيش ضرورات لم يدركها الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، عدا أن ينشغلوا بها ومثالها: وجود مدارس وجامعات وتعليم أساسي مجاني، مستشفيات ومراكز صحية ووزارة صحة، طرق ووزارة مواصلات، مساعدات للمزارعين عبر وزارة الزراعة، تسهيلات وضمانات لحركة التجارة عبر وزارة التجارة وعليها قس، فكل ما دونه الفقهاء خلال ألف عام عن الركاز والمعادن مثلاً، لا علاقة له أبداً بأنظمة إدارة المتاحف والآثار ولا بأنظمة وزارة البترول والثروة المعدنية، وكل ما دونه الفقهاء خلال ألف عام عن بيت المال، لا علاقة له بورق البنكنوت الحالي وأنظمة مؤسسة النقد ووزارة المالية، والتزامات الدولة مع صندوق النقد الدولي وغيره.

ومن ملاحظتي لبعض رسائل الماجستير في جامعاتنا، التي تتكئ على ما يسمى»دراسة مقارنة» كرسالة ماجستير بعنوان مثلاً «عقود الاستثمار مع الأجانب بين الشريعة والقانون»، لتتفاجأ بالطالب وقد أنهكته التلفيقات، فهو في الحقيقة لا يجد شيئاً ناجزاً في كتب الفقهاء القديمة، ليستند إليه في دراسته المقارنة، بل يصدق عليه ما ذكره مراد هوفمان في كتابه المعروف «الإسلام كبديل» عندما قال:»القانون الإسلامي يرى نفسه بكل ما في الكلمة من معنى، مأخوذاً من الوحي السماوي، أي أنه قانون إلهى أو سماوي، من ثم يوصف القانون الإسلامي بأنه طريق الهداية أو الشريعة التي شرعها الله، والتي يمثلها مصطلح الفقه الإسلامي، هذه النظرة لم تتغير حتى اليوم، لكن المحاولات دائبة منذ بداية القرن العشرين، لتحديد مفهوم مصطلحي الفقه والشريعة تحديداً أدق، لاستخلاص جوهر القانون السماوي، والتفريق بينه وبين القوانين التي سنها بشر مسلمون، يصيبون ويخطئون... أدى هذا إلى عدم التفريق تفريقاً محدداً باتاً، بين عالم الدين وبين الفقيه، أو المتخصص في علوم القانون الإسلامية... هذه الخاصية الشاملة للفقه، تتجلى بوضوح بالغ في التصوير الكلي العام للقانون الإسلامي، والذي تتناول أبوابه الأولى عادةً الصلاة وشروطها، وما يتعلق بذلك من شكليات أو أوضاع، وعلى العكس من النظم الغربية لا يفرق علم الفقه الإسلامي بشكل غير مبدئي بين: 1/‏القانون والعادات أو التقاليد. 2/‏القانون الخاص المدني والقانون العام. 3/‏ القانون الجنائي وقانون العقوبات الخاص بالأفعال الممنوعة المعروفة بالمظالم. 4/‏ القانون الخاص «المدني» للدولة، وقانون الأجانب، والقانون الدولي... إلى أن يقول: إن التدوين لأحكام القرآن في شكل مدونة قانونية يشترط أن تستخلص وتجمع كل المعايير والأحكام كافة، وهذا بالذات مستحيل التحقيق، لأنه ما من أحد يستطيع أن يتنبأ أي الآيات يجب الأخذ بها حكماً فيما قد يجد أو يطرأ من وقائع، في مكان معين وزمان معين تحت ملابسات معينة، مستقبلاً، ثم إن كل آية من آيات القرآن غير منفصلة عن السياق القرآني والنظم كله، وينبغي قراءتها ومحاولة فهمها على هذا الأساس، أي لا يجوز بتر الآية لتكون مادةً أو بنداً في مدونة «قوانين وضعية».

«مراد هوفمان/‏ الإسلام كبديل ــ ص 178/‏180 الطبعة الثالثة، الرياض، مكتبة العبيكان».

وأخيراً يجب أن نذكر أصحاب النظر بما يعرفونه، من أن كلمة حرام ليس لها أي بعد قانوني على الأرض باستثناء «الحدود الشرعية فقط» فليس كل محرَّم مُجَرَّم، وليس كل مُجَرَّم مُحَرَّم، فالغيبة والنميمة والرياء والنفاق كلها حرام ومثلها كثير، ولكنها ليست جرائم ترفعها السلطة التنفيذية للسلطة القضائية، بينما مخالفة نظام البنوك، أو شراء سلاح بلا رخصة... إلخ كله مُجَرَّم فقط وفق النظام، كل هذا نذكر به، كي لا نجد في جريدة عكاظ أو غيرها خبراً جديداً لقاضٍ يرى أن سرقة جهاز التلفزيون أو جهاز البلايستيشن من المحلات والمنازل، لا عوض فيه ولا عقوبة، لأن التلفزيون والبلايستيشن يدخلان ضمن آلات اللهو التي لا عوض فيها عند الفقهاء قبل مئات السنين، والأمثلة في ذاكرة المهتمين وأهل الاختصاص كثيرة.