ما إن أنهيت حديثي مع سيدي الوالد -حفظه الله- حول فحوى مقالي هذا، والذي كان بعنوان: (بيانات ضد بيان، وهيئات ضد هيئة)، وقد ذكرني بحادثة الطفلة الشهيدة وجدان الكنيدري، وربطها بجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، حتى استدعت ذاكرتي ذلك اليوم الكئيب من ظهيرة الأربعاء: (21 أبريل 2004)، وجدان -لو قدر الله لها الحياة- ستكون اليوم قد قاربت الثلاثين عامًا، وربما هي الآن طبيبة سعودية كما هي أحلام طفولتها الطاهرة. عندما عادت وجدان من مدرستها، في ذلك اليوم المشؤوم، انطلقت تطمئن على حمائمها الصغيرة، وتلاعبها، وتحنو عليها، تطعمها مرة وتسقيها أخرى، ثم تناولت وجبتها المفضلة (أندومي) لآخر مرة في حياتها. أقل من خمس دقائق بين صوت دوي الانفجار، وبين مفارقة روح وجدان جسدها حاملة معها أرواح حمائمها، لتلوح للدنيا بكف الوداع مبتسمةً.

غدر الإرهاب لم يستثن الأبرياء في عمر الزهور، بل مزقت مفخخاتهم ورصاصاتهم أجسادًا غضة لم تعرف الحياة بعد، ولا يغيب عن الذهن الطفل المصري الشهيد رامي الغنيمي (10) الذي اغتالته يد الإرهاب وهو في طريقه إلى المدرسة، والمختلف في مقتل رامي عمن سبقه من الأطفال أنه قضى نحبه محترقًا داخل السيارة التي كانت تقله إلى مدرسته بعد أن أطلق الإرهابيون الرصاص عليه بكثافة، وذلك في العملية الإرهابية التي شنها إرهابيو تنظيم القاعدة على مجمع (الحزام الذهبي) في الخبر.

أمير الحلم السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وعد كل أسر الشهداء، وضحايا الإرهاب، أن حق أبنائهم ودماءهم لن تضيع هدرًا وهو الكفيل بها شخصيًا، وكما أنه الكفيل بمحو الإرهاب والإرهابيين، وكان -حفظه الله- يشدد على أن: «المملكة ستستمر في الضرب بيد من حديد ضد كل من تسول له نفسه المساس بأمن واستقرار الوطن»، وأن: «العمل اليوم أصبح استباقيًا»، يسابق يد الإرهاب السوداء، ويغزوها في عقر دارها، وهو ما صرح به سموه حينما قال: «منذ منتصف عام 2017، وبعد إعادة هيكلة وزارة الداخلية وإصلاح القطاع الأمني، انخفض عدد العمليات الإرهابية في السعودية حتى اليوم إلى ما يقارب (الصفر) عملية إرهابية ناجحة، باستثناء محاولات فردية معدودة لم تحقق أهدافها البغيضة».

ويأتي بيان هيئة كبار العلماء، الصادر في 10 نوفمبر 2020 حول تجريم جماعة الإخوان الإرهابية، وتجريم الانضمام لها، أو التعاون معها بأي سبيل، أو التعاطف مع فكرها وأعمالها، في سياق وعد سمو ولي العهد، الذي أقفل -أي البيان- المنظومة الاستباقية لإرهاب وتطرف الجماعة المحظورة.

وسبق بيان هيئة كبار العلماء هذا، بيان من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في 25 أكتوبر 2020، على خلفية الرسوم المسيئة لمقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أشار إلى أن الإساءة لمقام النبوة لم يضر الأنبياء شيئًا، وإنما يخدم أصحاب الدعوات المتطرفة، الذين يريدون نشر الكراهية بين المجتمعات الإنسانية، في إشارة إلى استغلال جماعة الإخوان الإرهابية هذا الحدث لتخفيف الحصار على تركيا إردوغان التي تواجه مقاطعة اقتصادية شعبية في بعض الدول العربية وعلى رأسها المملكة، وكذلك محاصرة سياسية إقليمية وأوروبية.

ويأتي بيان هيئة كبار العلماء كرسالة ضمنية، إلى الدول الغربية، وإن كانت غير مقصودة، مفادها: «أن جماعة الإخوان لا تمثل الإسلام، وأن خطرها على الإسلام هو نفسه الخطر الذي يتهدد أوروبا»، وأن هذا البيان بمثابة إبراء ذمة من النموذج الذي تقدمه جماعة الإخوان الإرهابية، وأن المملكة تحاول بمنظومتها السياسية والدبلوماسية، والشرعية، والفكرية، والثقافية، والإعلامية، والمجتمعية، تقديم صورة الإسلام المعتدل بعد اجتثاث أفكار جماعات الإسلام السياسي الإرهابية.

وفي هذا الصدد لا يغيب أبدًا عن الذهن وصف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، في مارس 2018، بأنها: «حاضنة للإرهابيين»، ومن هذا المنطلق يظهر بيان هيئة كبار العلماء وجود قناعة في المملكة بأن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ومن ورائها شبكات نفوذها يجري الآن تفكيكها بشكل كامل، هي العدو الرئيسي لمسار الإصلاح والتغيير الذي يتبناه أمير الحلم السعودي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بدعم مباشر، وتوجيه دائم من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله-.

البيان استفاض بتوضيح كافة صفات الجماعة الإرهابية المحظورة التي أساءت وما زالت تسيء للإسلام والمسلمين، من خلال اختراق وتقسيم المجتمعات الإنسانية ونشر الفوضى، وتحريض المواطنين على الشغب وممارسة العنف كجزء أصيل في إستراتيجيتها، أملًا في الوصول إلى كراسي الحكم.

والجماعة الإرهابية، لم تقف مكتوفة اليد، أمام البيان بل سارعت بالرد عليه، وحاولت الدفاع عن نفسها بالتأكيد على أنها «جماعة دعوية إصلاحية، بعيدة تماماً عن العنف والإرهاب»، بحسب تصريح المتحدث باسم الجماعة -طلعت فهمي- لوكالة الأناضول التركية، وكانت ردة فعل الجماعة الإرهابية في البداية الاستخفاف وأنه بيان لا يقدم ولا يؤخر، ثم أفاقت من ذهول الصدمة، وصارت تسب الهيئة والحكومة السعودية، وتحديدًا ولي العهد، عبر أبواقها المعروفة، ثم لجأت إلى تجييش جيوبها من غرب العالم الإسلامي إلى شرقه، ضد البيان.

ومن الأمور الجيدة أن بيان الهيئة جاء بالتزامن مع قمة أوروبية جمعت فرنسا وألمانيا والنمسا لوضع الآليات والقواعد الأساسية لتوسيع مهام محاربة التطرف والمتطرفين، وذلك ضمن إجراءات تهدف بالأساس إلى محاصرة تنظيمات الإسلام السياسي، حيث إن هناك فيما يبدو حملة أوروبية بدأت تتضح معالمها لاستهداف مفاصل التنظيم الإخواني في أوروبا، وسط استفاقة في عدد من الدول الأوروبية بشأن الخطر الإستراتيجي الذي تمثله الجماعة من خلال استقطاب الشباب وشحنهم بأفكار تحض على مقاطعة المجتمع الغربي وبناء مجتمع منعزل يكره الآخرين ويحرض على استهدافهم واستهداف قيمهم.