كان مشايخ الصحوة السعودية يتهمون مخالفيهم بأنهم يذهبون إلى أن مشايخ الصحوة لا يعيرون «فقه الواقع» أي اهتمام، عند الحديث عن الشأن المجتمعي، أو الإفتاء بشأنه، هذا الاتهام لمشايخ الصحوة لم يكن هينًا أو سهلًا عليهم، فذهبوا مذهبًا قصيًا في الزعم بأنهم يستصحبون، ألم أقل ينطلقون من هذا الفقه، في تعاطيهم مع الشأن العام، سياسيًا كان أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا!

كيف نظر مشايخ الصحوة لصلتهم بفقه الواقع؟

تصدى أحد مشايخ الصحوة لهذه المهمة، مؤكدًا في البداية أنه لم يجد من أصَّل هذا الفقه، قال ذلك، على الرغم من وجود رسائل، وكتب لمعاصرين أثروا هذا الجانب بحثًا وتأصيلًا، ويمكن القول، على الأقل، إن الفتاوى والاجتهادات الفقهية الموجهة إلى الأقليات المسلمة في الغرب، تمثل نوعًا أصيلًا من فقه الواقع الذي يرى بأن النص، بمنهجه ومنطوقه الكلاسيكي، لم يعد مناسبا للنوازل الجديدة، وأنه لا بد من فتح باب الاجتهاد لتعامل جديد مع النص، يتفق ونوازل العصر الجديد، يجد ذلك صداه في كتابات واجتهادات عدد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين؛ بل إننا نجد مفكرين إسلاميين، مثل عبدالمجيد النجار، وطه جابر العلواني، ومحمد عمارة، تحدثوا بصراحة عن أن النص وحده لم يعد يكفي لمواكبة مستجدات العصر الحديث، وذلك يقتضي، كما يقول الدكتور محمد بوهلال في كتابه «خطاب الصحوة السعودية»، «إعادة النظر في النص الشرعي من زاوية محددات الواقع وإكراهاته».

وقبل هؤلاء، تنبهت حركة الإصلاح الديني التي تزعمها جمال الدين الأفغاني، ومفتي الديار المصرية: الشيخ محمد عبده إلى ضرورة إعادة النظر في الفقه الكلاسيكي، فدعت إلى فتح باب الاجتهاد، لشعورها بعدم مناسبة كثير من الآراء الفقهية القديمة للأوضاع المعاصرة.

من هنا نقول إن مفهوم فقه الواقع لم يكن من نحت الصحوة، بل سبقها إلى ذلك مفكرون، وفقهاء، ورسائل وكتب، واجتهادات بحثت الموضوع وأصّلته؛ بل نكاد نقول إن الصحوة، مع ذلك، لم تؤصل رؤية فقهية منفتحة على الواقع، بقدر ما يمكن القول إنها تكاد تكون رجعتْ بفقه الواقع إلى الوراء، في محاولة لإخضاعه للمفهوم الفقهي الكلاسيكي، الذي كان ينطق باسم العصر الذي أُنتج فيه، ولحاجاته، وحسب سياقاته المختلفة.

أول نقطة ضعف في تنظير الخطاب الصحوي لفقه الواقع، تكمن في ربطه إياه بمبدأ «الولاء والبراء»، ليس بمفهومه القرآني ذي المقصد الإنساني، بل بمفهومه الضيق، الذي ينطلق من قاعدة تخالف القرآن الكريم ومتواتر السنة، هذه القاعدة تقول بالولاء للمسلم، حتى لو كان محاربا؛ نتذكر في هذا المجال أولئك الذين رفضوا أن يتبرؤوا من صدام حسين، حين غزا الكويت، وهدد السعودية، عطفًا على أنه مسلم؛ وبنفس الوقت، تبرؤوا من القوات الغربية التي جاءت لتحرير الكويت، وصد عدوان صدام، بحجة أنها، أي تلك القوات، كافرة.

وهذا الفهم بلا شك فهم يقصر، تمامًا، عن الفهم القرآني الإنساني لمبدأ الولاء والبراء، ذلك أن الإسلام العظيم، انطلاقًا من أنه جاء رحمة للعالمين، لم يأت بالبراءة إلا من المحارب، أما المسالم فقد جاء القرآن الكريم بالحث على بره والإقساط إليه، كما تقول بالبراءة من غير المسلم، ولو كان مسالمًا، بل حتى لو كان ممن أفاد البشرية بعلمه واختراعاته، وهذا بلا شك مفهوم معوج، مردود، لا يستقيم ومقاصد الإسلام الذي جاء لخير البشرية عامة.

مبدأ الولاء والبراء بمفهومه الكلاسيكي، الذي شاع واغتنى بمفهوم الحاكمية، الذي أطلقه أبو الأعلى المودودي في شبه القارة الهندية، لحاجة ماسة حينها، وهي مواجهة الأغلبية الهندوسية في مواجهة الأقلية المسلمة، ثم تلقفه عنه سيد قطب في الناحية العربية الإسلامية، لا يمكن، في تقديري، أن يكون أساسًا أو قاعدة لفقه واقع يراد له أن يكون منظِمًا، ألم أقل مشرِّعًا لفضاء عام، أصبح متداخلًا على نحو لم يتوقعه أكثر الحالمين من قبل.

كيف ننظر لفقه واقع يقول للأقليات المسلمة في الغرب إن علاقتكم مع مواطني هذه الدول التي تستوطنونها علاقة كره وبغضاء وبراء، بصفتهم غير مسلمين، وبنفس الوقت، يجب عليكم أن توالوا المسلم، حتى لو كان إرهابيًا لا يتورع عن حز الرؤوس، وتفجير المجمعات، والعيث في الأرض فسادًا؟