كان التصوير الهزلي معروفًا عند الأقدمين، ولكنه لم ينتشر ولم يتأصل، ولم يستكمل حظه من الجودة والألفة إلا في القرنين الأخيرين. وقد يعزى انتشاره إلى أسباب كثيرة، أهمها الطباعة والصحافة والنظم الدستورية، بما تستتبعه من الحملة على الخصوم والرغبة في تعريضهم للبغض تارة وللسخرية تارة أخرى، وإلى معرفة بالنفس الإنسانية لم تكن مأنوسة في الأمم القديمة، فأصبح من السهل السائغ على الإنسان أن يرى في الملأ مضحكًا، أو أن تبدو جوانب النقص فيه للخاصة والكافة؛ لأننا نعلم الآن أن الكمال في الصفات غرض لا تتعلق به المطامع، وأنه ما من أحد إلا وفيه جانبه المضحك وجانبه الضعيف، فلا ضير علينا أن تظهر هذه الجوانب للناس، وأن يتندر بها من يعرفنا ومن لا يعرفنا، ومعظم الفضل في هذا — إن حسبت هذا فضلًا — للسياسة ونظام الشعبية الحديث، حيث قيل قديمًا: «من ألَّف فقد استُهْدِفَ»، ولكننا أحرى أن نقول في هذا العصر: «من خاض غمار السياسة فقد استُهْدِفَ»، فما في هذا الغمار رحمة ولا هوادة، ومن وطن نفسه على النزول فيه فلا يستغرب أن يكون غرضًا للمطاعن تارة وعرضة للسخرية تارة أخرى، ولا يصدق أنه ناج من التشهير والتقول، أو أن خصلة من خصال نفسه تبقى مجهولة مصونة غير مبالغ فيها، قدحًا ومدحًا وتعظيمًا وتهجينًا، ما دام له خصوم وأنصار، وما دام التحزب هو صناعة الحكم في هذا النظام الشعبي الحديث. ويعزى انتشار الرسوم الهزلية والرضا بها إلى سبب آخر لعله أقوى من هذا السبب وأدعى إلى شيوعها وقبولها، وهو تحول العقائد القديمة وزوال المثل العليا، ورجوع الأمر إلى التجربة والمشاهدة بعد أن كان مرجعه للخيال والتصديق بالمغيبات، فالضعف الإنساني اليوم حقيقة مقررة أو هو حقيقة محبوبة في بعض الأحيان، والتطلع إلى منزلة الكمال الذي لا تشوبه شائبة فكاهة يضحك منها الجاهل والعالم، وينكرها الأريب والغرير؛ لأنه ما من أحد إلا يرى بين عينيه مصارع العقول ومهاوي الشهوات، ويسمع عيوب العظماء ورياء المتزمتين والزهاد، ويختبر صنوفًا من الأنفس البشرية في حالتي العلو والإسفاف وخلتي الوقار والترسل، فلا فائدة من ادعاء الكمال؛ لأن تصديقه اليوم أبعد المحال. ولا ضرر من كشف النفس عن خبيئة مضحكة أو نقيصة شائعة، فهذا قضاء الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، وتلك سنة الحياة في هذه الدنيا الجديدة التي أبت أن تعرف القداسة في واقع أو في خيال.

وكان الأقدمون ولا ريب يعرفون هذا الضرب من قلة المبالاة، ويسمونه «الكلبية» Cynicism، ويطلقونه على من يحتقرون المظاهر والدعاوى و«ينهشون وينبحون» أصحابها بالقول البذيء والسخر، ولكن التسمية نفسها تدل على الإنكار وضيق الأمد، ولا تشبه أن تكون قد ظهرت بين أناس يماثلون أبناء العصور المتأخرة في فلسفة الترخص وعادة التحلل المطبوع، من قيود العقائد وفرائض الأديان، فإن بلغ الأقدمون إلى ذلك الحد فيغلب أن يكون ذلك في فترات متقطعة وأدوار غير مستفيضة، أو أن يكون بين خاصة الأصدقاء، حيث لا كلفة ولا احتجاز من إرسال النفس على السجية، والاطلاع على دخائل الأسرار وغرائب العادات. ولهذا الخلق الحديث خيره وشره، وذكاؤه وغباؤه، فمعرفة النفس الإنسانية حسنة، ولكن استحسان الضعف والقناعة به والتمادي فيه سمت غير جميل، وفضيحة الفضيلة المدعاة خير، ولكن عبادة الرذيلة شر لا نزاع فيه، وقبول السخرية سماحة، ولكن الإعجاب بما يوجب السخرية عجز وإسفاف.

وإن أجمل ما نحن كاسبوه من تسليط الضحك على الطبائع هو أن ينبهنا إلى مواضع النقص تنبيه عطف ودعاية، وأن ننتظر منه الجهد في معالجتها بما يقع في الطاقة، ويرجى منه التحسن في ناحية أخرى من النفس، إن لم يكن ذلك ميسورًا في الناحية المضحوك منها، فقلما طلب الكمال إنسان ورجع منه بغير نتيجة مرضية في الباب الذي طلبه أو في باب سواه.

ظهر التصوير الهزلي في مصر بالكلام قبل ظهوره فيها بالرسوم والخطوط، وساعدته النظم الشعبية الحديثة، كما ساعدته تجارب الحياة وسماحة الآراء، وكنا نعرف «القفش» قبل معرفتنا «الكاريكاتور»، ولا نزال نعتمد عليه في الصور التي نرسمها للأنصار والخصوم، فإنما هي صور مدارها على النكتة السانحة والنظرة العاجلة، وقل أن تدور على الدرس والمقابلة والنظرة المدمنة والعطف العميق.

ومن الصور الهزلية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة كتاب «في المرآة» لمحرر هذا الباب في زميلتنا «السياسة الأسبوعية»، وهو أديب فاضل يجيد «القفش»، وينظر إلى النفوس على طريقته التي عرف بها نظرة دراسة يطيلها حينًا ويقصرها حينًا، فيتناول منها نقائضها البارزة ويزيدها بروزًا، بما يضيف إليها من المبالغة والتهويل، ويدخله عليها من التحريف والتبديل؟.

ويرى أديب المرآة في «النكتة» أن مردها، كما قال في مقدمة الكتاب، «إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس، وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف، بحيث يحتاج إدراكها إلى فطنة ودقة فهم، خرجت باردة لا طعم لها في مساغ الكلام».

ورأي الأديب صوابا في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه: إن الخلل في القياس المنطقي مضحك، وإن التلفيق والتزييف داعية من دواعي السخرية. أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله: إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها، ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا؛ لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة، وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها، ولا تطرد حجتها، ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة، وهي البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدل.

مثال ذلك: جاء جماعة من الأزهريين إلى عظيم معروف بالنكتة اللاذعة والحجة الصادعة، فطلبوا إليه أن يتوسط في إرسال بعثة منهم إلى أوروبا أسوة بطلاب المدارس العليا، فضحك العظيم وأجابهم مداعبًا: وإلى أين نرسلكم؟ إلى الفاتيكان؟

هذه نكتة من خيرة النكات المسكتة، وهي تضحكنا، ولكن لا لأنها خلل في القياس المنطقي، بل لأنها تقيم الحجة على خلل ذلك القياس، وكأن ذلك العظيم يقول في سلسلة من القضايا المنطقية المسلمة: إن طلاب البعثات يرسلون إلى أوروبا لإتمام الدراسة في معاهدها، وأنتم طلاب علوم دينية، فأنتم تريدون إتمام دروسكم العالية في معاهد أوروبا.