كانت الليالي الثلاث التي قضيناها في «روضة الخفس» قبيل السفر منها، عائدين إلى الدار والأهل الولد، هي ليالي الحنين الشديد، الذي لم تشعر به نفوسنا إلا في حالات نادرة، فنحن قد قضينا ما يزيد على الشهر بعيدين عن الأهل والأبناء وغيرهم من الأصدقاء والمحبين، وقد انقضى الوطر من الرحلة، بتفضل حضرة صاحب الجلالة الملك، بالإذن لنا بالسفر، ولم يبق لنا دون الوصول إلى أهلينا وإطفاء غلة الشوق بلقائهم، غير انتظار اليوم الذي حدد للسفر، كأنما ننتظر معه قدوم السفينة التي تقلنا، أو ميعاد القطار الذي يطوي بنا المسافات !! وهي ليلات ثلاث كانت تمر بنا كمر السحاب، أو كنا نمر بها مر الكرام، لا نعرف لها قيمة في عداد العمر ولا في حساب الزمان، لو لم تكن ليلات انتظار وليالي حنين، فكم فيها من الساعات وكم فيها من الدقائق والثواني، إنها عملية حسابية تستنفد جهد الخبير وصبر الصبور، فالأمر لله ولنحاول قطعها بكل ما يمكن اختلاقه من أسباب السلو والنسيان، ولكن هناك شبحا يقض مضاجعنا، وتعقد لأجله أجفاننا، هو شبح الحنين، والحنين مسامر لطيف يتطرق إلى النفس كالسم في الدسم، فهو خيال طريف وسمر شهي ممتع، يخلو به الإنسان مع نفسه، فتتلذذ بطرافة خياله وشهي سمره وجمال خلوته، ولكنه يسلب الكرى ويستطير باللب ويبعث على التفكير ويوقظ الأعصاب، ثم إذا به في نهاية الليل يسلمك من الأرق إلى السهاد، ويبدلك السهر بطيب الرقاد، فلا تستفيق من حلم في ذلك الصحو الدائم، إلا على حلم ألذ منه صحواً وأكثر يقظة وانتباها. ولقد كانت نفوسنا تعج بألوان متضاربة من الحنين، وأشكال متباينة متناقضة، ولا شك أن كاتب هذه السطور كان أشد الرفاق تعرضاً لذلك الداء الوبيل، الذي قلنا إنه يقض المضجع ويسلم الكرى، حنيناً إلى بنيات قيل في مثلهم:

لولا بنيات كزغب القطا يفـــزعن من بعض إلى بعض

لكان لي ملتــجأ واسع في الأرض ذات الطول والعرض

ولكن أين هم مني؟ وأين أنا منهم؟ حين أتمثل بقول القائل:

أحن لهم شوقا على أن بيننا مهامه يعيا دون أقصرها الربد

وهذا الذي أقوله عن نفسي، لست أشك مثقال ذرة في أنه شعور غيري من الرفقاء أيضا. وهناك لون آخر من الحنين غير هذا اللون، فالشوق إلى روضة الخفس قد بدأ يساورنا ونحن في روضة الخفس، أو بمعنى آخر إن الحنين إلى نجد، وإلى ساكني نجد وإلى ديارها وروضاتها، ومعالمها وأرباضها ومنازلها، قد بدأ يسارونا ونحن فيها لما ننتقل منها ولما نتحرك عنها، فهي في ذاكرتنا حاضرة قبل أن تبقى خيالاً وقد ارتسمت خيالا قبل أن تطويها الذكريات، فأين من هذا الشعور قول الشاعر:

أشوقاً ولم يمض السرى غير ليلة فكيف إذا خب المطى بنا عشرا

فهذه روضة الخفس، وهذا غديرها المشهور، الذي كان يتلقى أنفاسنا الحرى، ملتهبة بالشوق والحنين، فيحيلها بردا وسلاما وننسى ونحن في ظلاله ما كان يعتلج في نفوسنا من ذلك الشوق والحنين، وها نحن أولاء مفارقوه بعد لحظات قصيرة تسمى بالأيام، فكيف لا نحن إليه ونحن فيه.

وهذا جبل طويق الذي احتضن روضة الخفس، وقام عليها كالأم الرؤوم، وقد كانت لنا جولات ونزهات من حول أرباضه وبين سفوحه، ولقد أذكر مرة أنني خرجت مع رفيق في إصباحة باكرة لمحاولة التعلق بأهداب ذلك الجبل والتصعيد إليه، فقضينا زهاء الساعتين في محاولات عابثة عدنا منها بالضنى والكلال، والعجز عن إدراك الغاية، فقد كان الجبل مقطوع الأطراف، كأنه حائط قد بالسيف أو كأنه برج معلق في الفضاء، أو كأنه حصن لم يضع له صانعه مصعدا، حتى قلت لصاحبي: لعله جبل السموأل فإن لم يكنه فهو في صفته على الأقل، ولعله كما قال فيه صاحبه:

لنا جبل يحتله من نجيره منيع يرد الطرف وهو كليل

فقال لي: أجل، منيع يرد الطرف فهو كليل، ومع ذلك لم نيأس من تلك المحاولة السابقة فقد عمدنا إلى محاولة أخرى أوسع نطاقا، فركبنا سيارة وقمنا بجولة التفاف حول الجبل علنا نبصر منفذاً إليه، وبعد جهد جهيد عدنا أدراجنا من حيث أتينا، دون أن نظفر من جبل السموأل بطائل !! وكل ما أمكن أن نظفر به منه هو اقتناء حصباوات غريبة الشكل من حصباء الجبل، لفتت نظرنا بأحجامها الدقيقة الغريبة ،ومناظرها الخلابة الرائعة... فما لنا لا نحن إلى طويق، وما لنا لا نفعم منه بالذكريات، بعد أن صحبناه شهراً من الزمن أو يزيد !! وبعد أن كانت لنا معه تلك الجولات الشائقة في الإصباح والإمساء، وبعد أن أصبحت قطع من حصبائه تقوم بعملها على مكتبي في حراسة الأوراق من الهواء !! من تلك الحصباء التي صحبتها من سفوحه، وهذا «غدير الخويبي» الذي يقع في شرق الروضة ويحتضنه جبل طويق، متنزهنا في كل يوم، كيف نودعه اليوم، وكيف لا نحن إليه ولنا فيه ذكريات، فقد كانت تنتظم حلقة الرفاق في ظلال أشجاره أو تسبح علي موجات مائه، أو تتسامر تحت أغصانه، ملتهية بما توحيه تلك الجلسة من عبق الحديث، الذي يختلط نشره بعبق الروضة وجمال الماء.

ومن الذكريات التي لا تنسى فيه أن الشيخ عبدالله الشيبي يأبى أن يقضي نزهته حول ذلك الغدير، إلا مختبئا تحت أغصان أشجاره، مستترا بها وفوهة بندقيته مصوبة من خلال الأشجار والأغصان، إما إلى كبد الجو الفضاء يتلمس طيراً هائماً، وإما إلى سطح الماء يتلمس طيرا ظامئا، فإن لم يظفر في كلتا الحالتين بضالته من الطيور الضالة، فلا أقل من طلقة أو طلقتين يرسلهما مدويتين عبر الفضاء، ليعرف الرفاق أن الشيخ قام بمهمته خير قيام، وأنه صوب بندقيته وأطلقها، ولا عليه بعد ذلك إن أخطأ أو أصاب، فالمرء عليه أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه أن تتم المطالب، كما يقول الشاعر.

ومن الذكريات التي لا تنسى فيه أن سعادة الشريف شرف رضا، وهو رجل رقيق العاطفة - وقد قلنا في مناسبة سابقة: إنه كاد يصبح شاعراً طيلة مدة الإقامة في الروضة، لما شحذت من عاطفته مناظر الصحراء - كان يجلس جلسات طويلة في متنزه ذلك الغدير متفيئا ظلال أغصانه الوارفة، فيقول: إن جمال هذه الروضة ومناظرها تفوق روعاتها «غابة بولون» في باريس، ولا يكاد يخلو في هذا المتنزه، إلا ويتذكر غابة بولونيا وجمالها فينشد أبياتا من قصيدة لأحمد شوقي بك في وصف جمال تلك الغابة، ويستنشدنا بقية أبيات القصيدة فننشده إياها فيطرب ونطرب معها من ذلك الوصف، ونتمثل الشاعر كأنه قاله في وصف مجلسنا، لا مجلسه الغابر فنستعيد الوصف ونردد:

يا غــاب بولون ولي ذمـم عليك ولي عهود

يا غــاب بولون ولي وجد مع الذكرى يزيد

هلا ذكرت زمـان كنا والــزمان كمـا نريد

نطوي إليك دجى الليا لي، والدجى عنا يذود