قلت له وأنا أحاوره: إذا نال الإنسان ثقة ولي الأمر، وأسند إليه إدارة قطاع معين، أيا كان هذا القطاع، فإن عليه أن يتصرف وفق المصالح العليا للوطن والمواطن، لا وفق آرائه الخاصة وقناعاته، ولا وفق قناعات أصحابه الخاصين، بل عليه أن يحتفظ بآرائه الخاصة لنفسه ما دامت لا تنسجم مع مصالح الدولة.

فقال: وهل يصح أن يكون للإنسان شخصيتان، شخصية قبل المنصب يقول فيها رأيه، وشخصية بعد المنصب يتحفظ فيها على رأيه السابق، أليس هذا من التناقض؟

فقلت له وأنا أحاوره: هناك أمور ثوابت لا يجوز أن تتغير قط مثل الصدق والنزاهة والاستقامة والولاء، وسلامة المنهج، وبذل الجهد في نفع البلاد والعباد، وهناك أمور متغيرات، تتغير تبعا لتحقيق المصالح ودرء المفاسد.

فقال: هذه التي تسميها متغيرات مثل ماذا؟

فقلت: مثل الآراء، فرأيك عندما كنتَ تُمثّل نفسك يختلف عن الرأي الذي تُمثِّل به القطاع الحكومي الذي كُلِّفت بإدارته، لأن رأيك الخاص لا تمثِّل فيه إلا نفسك، ولذلك أنت تتحمل تبعته وحدك، أما الآراء التي تقولها وأنت مسؤول في قطاع عام، فإنها تُحسَب على ذلك القطاع، فلا بد من التحرز، والنظر في فقه مآلات ما تقول وانعكاساته، وأيضا قناعاتك في محبة أشخاص وأصدقاء معينين والاستماع إليهم، ورفضك من لهم قناعات وآراء تخالف رأيك في العمل، هذا التصرف ربما يسوغ إذا كنت تمثل نفسك وفي بيتك، أما إذا كنت في قطاع تمثل فيه الدولة، فإنك خادم لجميع المواطنين، والقطاع الذي تعمل فيه للدولة وليس لك، فلتسع الجميع، ولتسمع من الجميع، وترفق بهم، وتوجههم إلى الخير، ومن صدر منه خطأ أو تجاوز ببينةٍ ثابتة، لا بالظنون والأوهام، فإنه يُحاسَب كائنا من كان.

فقال: كيف استقبل من له آراء وقناعات مخالفة؟

فقلت: وما الضير في ذلك؟!. هم لم يأتوك في بيتك، والقطاع الذي أنت فيه للدولة ليس لك، كما تقدم بيانه، والدولة - وفقها الله - مظلة لجميع المواطنين، ثم إن استقبالك لهم أو الاستماع إليهم لا يلزم منه قبول أقوالهم التي تراها مخالفة، بل عليك بيان الحق لهم ولغيرهم بعلم وعدل ورفق، وتحذيرهم من الخطأ بعلم وعدل ورفق، وارتباط المواطن بدولته، واستماعه لتوجيهات المسؤولين خيرٌ من طرده، لأن ذلك يُفوِّت الفرصة على أعداء الدين والوطن، ولأن حوارك مع ذلك المخالف قد يفيده، ويُغيّر آراءه وقناعاته للأفضل، وربما يتبين لك بالحوار معهم أنك واهم في وصفك آراءهم بالمخالفة، وتكون أنت المخالف، فتستفيد منهم.

فالمعاملة الطيبة، والحجة القوية سبب لقبول الحق. كما أن الغلظة والفظاظة سبب للنفور عن الحق، ولئن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرٌ لك من حمر النعم.

فقال: هذا الكلام الذي تقوله هل هو كلام سياسي أم شرعي؟

فقلت: بل هو كلام شرعي، تدل عليه النصوص الشرعية، ثم إن السياسة الشرعية من الدين، كما في الحديث الذي رواه البخاري «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء».

وكان العلماء الكبار يتصرفون وفق السياسة الشرعية، ومن ذلك أن الإمام أحمد سئل: أنغزو مع فاجر قوي أم ديِّن ضعيف؟ فقال: بل مع الفاجر القوي، لأن قوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الديِّن الضعيف، فدينه لنفسه وضعفه على المسلمين.

وكان الخليفة عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - يقول: إني أريد أن أُخرج لهم المرة من الحق، فأخشى أن ينفروا منها، فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأدفعها معها، فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه.

فقال: هذا حسن، وهل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك بعض الاختيارات التي يراها من أجل ما تسميه «المصالح العليا»؟

فقلت: نعم ثبت هذا في صحيح البخاري، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عَهْدٍ بكفر، لنقضت الْكَعْبَةَ، وجعلت لها بابين». وقد بوّب عليه البخاري بقوله «باب: من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه»، فكون الإنسان يقول أو يفعل ما يعتقد أنه حق دون ملاحظةٍ لما يترتب على قوله أو فعله، ويقول سأفعل وليكن ما يكون لا يهمني، هذا ليس من الحكمة الشرعية، حيث قال الله تعالى «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم»، فمعرفة المآلات معتبرة، شرعا وعقلا، وأيضا ليس كل ما يُعلَم من الحق يُقال، وما يُقال لقوم قد لا يصلح أن يُقال لآخرين، حيث قال البخاري في صحيحه «باب: من خصّ بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا»، ثم ذكر حديث «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة»، فقال معاذ: أَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لاَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا، وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب: فيه جواز كتم العلم للمصلحة، ولهذا لما زال المحذور، وهو خوف الاتكال وترك العمل من بعض الناس، صارت المصلحة نشر الحديث، فنشره معاذ - رضي الله عنه - بعد ذلك، ولو أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام عدم نشره مطلقا لما نشره معاذ رضي الله عنه أبدا.

فقال: هذه نصوص شرعية قاطعة لا نملك إلا التسليم لها، ولكن هذا الفقه الإداري، وانشراح الصدر، وتحمل الناس، وفقه المآلات، مثاليات يصعب تطبيقها.

فقلت: من يصعب عليه تطبيقها فعليه أن يعتذر، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، وسيأتي بدله من يستطيع، فبلادنا ودود ولود، فيها كفاءات عاقلة متزنة، تخدم الوطن والمواطن بصدر رحب.