مع تغير نمط الحياة في معظم مناطق المملكة، خُلقت نشاطات عدة مختلفة أدت إلى تغيير كبير في المدن والقرى التي شهدت سابقا أنماطا عمرانية تقليدية ومواقع بات ينظر لها اليوم كمواقع أثرية أضحت ذات قيمة متفردة بما تمثله من تراث ومعان خاصة للمجتمعات المحلية وللأجيال المقبلة، ولعل أبرزها ما يعرف اليوم في نجران بـ"الدروب" و"القصور" التي تشهد عودة شبه جماعية إلى ترميمها والعناية بها، بعدما تعرض بعضها لعوامل التلف أو الاندثار التي تسببت بها عوامل الطبيعة أو الأعمال البشرية.

وتحمل «الدروب» و«القصور» بين جنباتها حكايات وقصص جسدت بساطة حياة الأجداد والآباء، وتروي قصص تكاتف الأسر، وكان بعض غرفها يتسع إلى نحو 15 أو 20 شخصا جلوسا، وكانت عدة اسر تتشارك الدرب أو القصر الواحد، وكان من النادر أن يحصل بينها مشاكل أو خلافات، وحتى عند حدوثها كانت تُحل سريعا، وكان حكم الشيخ أو كبير القبيلة أو الأسرة قاطعا ولا رد له.

القصور والدروب

عرفت البيوت الطينية الكبيرة في منطقة نجران بـ«القصور»، فيما أخذت البيوت الصغيرة مسمى «الدروب»، وانتشرت في القرى الواقعة على ضفاف وادي نجران، وبعض محافظات المنطقة ومراكزها، وتميزت بتنوع أشكال «الشراريف» وهي زخارف تعلو المباني بتناغم فني جميل ومتعدد، ويطغى عليها اللون الأبيض، كما تميزت بالـ«المداميك» وهي عبارة عن خطوط عرضية تعطي المبنى شكلا جماليا متميزا وتحفظ جدرانه من الأمطار وعوامل التعرية.

القلوب الواسعة

يقول عبدالله آل عباس، أحد الذين سكنوا البيوت الطينية "قديما كانت الغرفة الواحدة في بيت الطين لا تتعدى مساحتها 15 مترا مربعا تتسع لجلوس 15 شخصاً تقريباً، وعند النوم قد إلى 10 منهم.. كانت القلوب واسعة وطيبة ونظيفة، وحتى الأجساد كانت رشيقة بسبب العمل اليومي والتغذية الصحيحة المعتمدة على القمح والشعير والذرة والدخن والتمر واللبن، عكس ما يحدث اليوم.

ويضيف "كانت عدة أسر تسكن البيت الطيني الواحد، كل منها يتكون من 4 إلى 5 أشخاص يتقاسمون غرف البيت حسب أعدادهم، ويشتركون جميعاً في السطح فيستعمل لاستقبال الضيوف والسّمَر والجلوس الجماعي وعقد الاجتماعات، وكانت كل أُسرة تستخدم المكان الذي أمام غرفتها كمطبخ لإيقاد النار لإعداد القهوة والأكل، وكان يبنى من بضع حبات من الحجارة الصغيرة والحطب المنوَّع من سعف النخيل وإناءين أو ثلاثة إضافة إلى إناء صنع القهوة وآخر لعجين الطحين، وسادس لحفظ الخبز والأطعمة الأخرى، ولم يكن أحد يشتكي من الضيق ولا دخان النيران".

إكرام الضيوف

يتابع آل عباس "كانت الأسر قديما تتبادل الطعام، كثيرة وقليلة، ولا ينام الرجل إلا وقد اطمأن على جاره، وعند وجود مناسبة لأي منهم تتم دعوة القريب والبعيد، وفي المناسبات الكبيرة يتشاركون جميعاً في إعداد الطعام".

ويكمل "عرفت تلك البيوت الطينية سلوكا دائما يدل على الكرم، وحتى في غياب الرجل، كانت المرأة تحل مكانه في قرى الضيف، وأذكر أنني كنت مع ابن عم لي في زيارة لصديق في إحدى القرى القريبة، واسقبلتنا امرأة في غياب زوجها، وذبحت إحدى أغنامهم إكراماً لنا، وقالت: سال دم الذبيحة، قوموا أكملوا تقطيع ذبيحتكم ليتم طبخها وإكرامكم".

قلاع حصينة

لا تخلو أحياء نجران من البيوت الطينية القديمة، التي يسعى أصحابها اليوم إلى إعادة ترميمها، وعادة ما تكون ذات ارتفاع شاهق يصل إلى 30 مترا في نحو 10 أدوار، وكثير منها استخدمت سابقا كقلاع حصينة وأبراج حراسة للقرى والمزارع، وما يزال بعضها مأهولا حتى الآن لاحتفاظها بقوتها ومتانتها أمام العوامل المؤثرة ناهيك عن شكلها الجمالي.

توزع المباني

تتوزع المباني الطينية في نجران على الحضن، دحضة، الشبهان، صاغر، القابل، المشكاة، المخلاف، الموفجة، وقرى أخرى ممتدة من شرق منطقة نجران إلى غربها، ويتميز المبنى النجراني بـ«المربع»، حيث تتخذ قاعدته شكل المربع، و«المشولق» وهو مبنى على شكل حرف (U)، و«المُقدم» وهو سقف واحد على الأقل وأصغر المباني الطينية، و«البروة» وهي الغرفة الواحدة، و«القصبة» وهو المبنى الأسطواني الذي يكون على أطراف القرية للحماية، وهو متعدد الأسقف.

مراحل البناء

كان بناء البيوت الطينية في نجران يبدأ عبر تحديد قطعة الأرض المراد إنشاء المبنى عليها، ويُمد خيط لتحديد أساسات المبنى، ويتم توفير الحجر والطين والخشب كأهم مواد الإنشاء، ثم تحفر بالأرض بعمق أكثر من مترين، يبدأ وضع الأساس المسمى «وثر» وهو عبارة عن حجر وطين يوضع فيما يعرف «بالمدماك» الذي ينفذ على مرحلتين، وهي وسيلة بناء قديمة تمزج فيها الحجارة مع الطين المبلل في إطار حجري على شكل مستطيل، وبعد الانتهاء منه يترك يوما في الصيف حتى يجف الطين، أو أكثر في الشتاء، ثم تعقبه عملية «التعسيف» ويقصد بها بناء الدرج أو ما يعرف بـ«العسفة» للصعود للغرف العلوية، ثم عملية «الصماخ» أو "التلييس" حاليا.

وتبدأ كذلك عمل وضع سقف المبنى من خشب جذوع وسعف النخيل وأشجار السدر أو الإثل، بعد 15 يوما من إعداد الأحجار الطينية عبر «المدماك» و«الصماخ»، يبدأ العمل على «القضاض» وهو الجير الأبيض الذي يثبت أركان البيت ويزينها مع اللون الطيني.

أبرز المباني

تحولت عدد من المباني الطينية في نجران إلى معالم بارزة، ومنها «قصر الإمارة التاريخي» في أبالسعود، وشيد بطريقة معمارية متميزة عام 1353/ 1934 بداية دخول نجران تحت لواء الدولة السعودية، وبناه آنذاك أمير نجران تركي بن ماضي، ويتكون من 60 غرفة ومسجدا وبئرا قديمة، ويوجد في أركانه الأربعة أبراج دائرية للحراسة والمراقبة، وهناك قصر العان الذي كان يعرف قديما باسم «قصر سعدان» وهو مشيد من الطوب واللبن والطين على قمة أحد الجبال وبني 1100/ 1689.

المباني الطينية

«القصور» تطلق على مباني الطين الكبيرة

«الدروب» تطلق على المباني الصغيرة

«الشراريف» زخارف مميزة تعلو المبنى

«المداميك»خطوط عرضية بالمبنى

«وثر» عبارة عن حجر وطين يوضع في أساس المبنى

«التعسيف» هو عملية بناء الدرج

«العسفة» الدرج للصعود للغرف العلوية

«الصماخ» المعروف في الوقت الحالي بالتلييس

«القضاض» الجير الأبيض