في عام 1798م أفاق المسلمون من سباتهم الحضاري، على أصوات مدافع الحملة الفرنسية، وهي تعلن بداية عصر الهيمنة الأوروبية، الذي ما زال سائدا حتى اللحظة الراهنة، ولم يع المسلمون آنذاك حقيقة أنهم على أعتاب عصر جديد، يؤذن بأفول نجمهم كقوة فاعلة على الساحة الدولية، وانعدام تام على الساحتين الفكرية والسياسية، وأطلق على الفترة التاريخية فيما بين 1798 و1914 «قيام الحرب العالمية الأولى»، عصر النهضة العربية، وفي ظل غياب تام لأي نهضة إسلامية، ويمكن القول إنه طوال فترة الدولة العثمانية – أو إن شئت الخلافة العثمانية – كان العرب ينحدرون في طريق العزلة والضعف والتخلف، على الرغم من سرعة اتساع القوة العثمانية في أوروبا، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، لكنها كانت قوة الساعد والسيف لا العقل. ومع تنامي النهضة العلمية الأوروبية والكشوف الجغرافية، وما أدى إليه ذلك من تحرك استعماري للدول غير الأوروبية، اضطرت الدولة العثمانية إلى التراجع شيئا فشيئا، حتى انكفأت على ذاتها لتتدهور بشكل تدريجي، إلى أن تم القضاء عليها، وفي مقابل ذلك كان الغرب يمسك بزمام الثورات العلمية والصناعية، والتطور الفكري والسياسي والاجتماعي، أما العرب والمسلمون – خاصة في الشرق – فقد أخذوا يرددون ما ورد في كتب التراث، رافضين الأخذ بما هو جديد فكريا، معتقدين وهماً أنهم سيضيعون لو أنهم أتوا بجديد، مخالف لما ورد في كتب الأولين، ويكفي استدلالا على تدهور الحالة الفكرية عند المسلمين في ذلك الوقت، وفي ظل الدولة العثمانية، أن العلماء عارضوا إدخال المطابع إلى الدولة وطباعة الكتب الدينية، وحين سمحوا برخصة تأسيس أول مطبعة في استانبول في النصف الأول من القرن الثامن عشر، نصت الفتوى على حق صاحب الرخصة في طباعة المعاجم والكتب العملية والتاريخية فقط. كان السبب الرئيس للتخلف الفكري في بلاد المسلمين، يكمن في سيطرة رجال الدين أو العلماء على الحياة الفكرية، حيث عارضوا كل تجديد في الفكر، ويكفي أن نعلم أنه خلال مائتي سنة لم ينجب العالم العربي من المفكرين، سوى عدد لا يزيد على عدد أصابع اليد، كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي ورشيد رضا والطهطاوي، وكلهم فشلوا في تطوير الحياة الفكرية، على الرغم من أهمية إسهاماتهم الثقافية والسياسية، لأن علماء الدين وقفوا لهم بالمرصاد، وعاونهم في ذلك مجتمع جاهل، فكان أن وُئِدَتْ الحياة الفكرية قبل أن تثمر بذورها، وعلى الرغم من تطور مناحي الحياة الفكرية العربية، بسبب الاتصال بالغرب كالصحافة والتعليم، والصحة والحياة الاجتماعية بشكل عام، ولم يستطع الفقهاء والعلماء، تقديم أي مساعدة فكرية أو ثقافية دينية، وكأنهم كانوا يؤمنون بمقولة المسيح عليه السلام: «أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر».

أدت سياسة التتريك التي فرضها الاتحاد والترقي والاستعمار الأوروبي، الذي سيطر على العرب والمسلمين المفضلة لمصطلح Nationalism والتي عملت وفقا لمصطلحات الحرية والديمقراطية، والدستور المشروطية، وفقا للتعبير العثماني، والمساواة التي تمت استعارتها من الفكر الغربي، ولم يتساءل الفقهاء حول مدى شرعية استخدام هذه الأفكار والمصطلحات الغربية، في حياة المسلمين كما أنهم لم يتقدموا بأي بدائل فكرية شرعية، تعين المسلمين على بناء حياتهم، ولمن يبحث عن إجابة عن السر وراء ذلك العجز نقول: إن الفكر السياسي الإسلامي، الذي أخلص له الفقهاء كان يتمحور حول الخلافة التي زالت، وحيث إنه لا يوجد بديل سياسي، كان من الطبيعي أن يصمتوا حتى لا يظهروا عجزهم الفكري من ناحية، ولم يكن بمقدورهم إعلان الموافقة الشرعية على الأخذ من الغرب، لأنه يعد كفرا من ناحية أخرى، فكان أن وقعوا بين المطرقة والسندان، فآثروا الصمت والعزلة في بداية الأمر، ثم انقلبت الحال بعد قيام الأنظمة السياسية الوطنية.

في أواخر العشرينيات من القرن العشرين، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين، التي تفوقت على كل الجمعيات الدينية – الاجتماعية الأخرى في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، منذ أواخر العشرينيات حتى عقد الأربيعنيات، حتى قررت خوض غمار السياسة دون استعداد مسبق من الناحية السياسية، اعتمادا على القاعدة الشعبية التي تم تكوينها خلال الثلاثينات واضطر أتباع الجماعة إلى التعامل مع الصيغة السياسية القائمة، على الرغم من الأفكار السياسية المتناثرة في أدبياتها حول الخلافة، ورفض الحزبية، ولأنها لم تكن تملك ولا تزال تصورات محددة عمليا، لوضع تلك الأفكار موضع التطبيق، حتى جاء سيد قطب رحمه الله فألغى الواقع بجرة قلم، تقليدا لأبي الأعلى المودودي، معلنا جاهلية المجتمع والدولة داعيا إلى إقامة حاكمية الله، فكانت كتاباته المدخل الذي ولج منه الإرهاب الديني في المجتمع العربي.

وظهرت في العالم العربي كتب الاشتراكية الإسلامية، في مصر وسوريا وبأيدي مفكري جماعة الإخوان!! وبعضهم تراجع عنها قبل وفاته، وهذا دليل واضح على التشوش الفكري لدى الجماعة في الجانب السياسي، واحتاج الأمر إلى بعض الوقت لتظهر لنا البنوك الإسلامية في جزر البهاما، والتي تطبق كل المفاهيم الرأسمالية، وتستخدم المال من أجل الحصول على المال، واختلط الحلال بالحرام، باعتبار أنهم يحرمون أنشطة البنوك العادية، ولم يهتموا بحقيقة أن مصدر شرعية وجودهم، يتمثل في قانون الدولة القومية أو الوطنية، التي تتعارض مع مفاهيم دار الخلافة التقليدية، والتي لا تطبق الأحكام الإسلامية!!

اللاوضوح واللاقطعية سمتان أساسيتان في التعامل السياسي لأعضاء التيار الديني، إنهم يدعون إلى إقامة دولة الخلافة، لكنهم في الواقع يتعاملون مع مفاهيم الدولة الغربية.