المملكة تزخر بكوادر وطنية عالية الكفاءة والذكاء، ومتى ما توفرت لهم الفرصة فلن يقف أمام طموحهم حد، وهم ثروتنا الحقيقية، التي نعتمد عليها في تحقيق الإنجازات، إذا ما تم تمكينهم، وتمكينهم يتم عبر توفير الوظائف المناسبة، والتأهيل العالي، وهو الأمر الذي لم تدخر حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أيده الله- وسعًا أو جهدًا، في توفيره لأبناء الوطن، عبر الجهود العابرة لكل ظروف الزمان والمكان، التي يقوم بها ولي العهد الأمين -حفظه الله- مع فرق العمل المتعددة التي يقودها مباشرة، أو عبر مساعديه، والتي حولت الوطن إلى ورشة عمل، تصل الليل بالنهار، للوصول إلى الهدف المنشود، رغم الظروف الإقليمية والدولية المعيقة لكل تقدم.

وتبقى ثقة المسؤول في القطاع الخاص، هي الفيصل الذى يمكن أن يحدد عمق الإفادة من هذه الكوادر الوطنية بتوفير الفرص، وخفض مستوى المنافسة على المراكز والوظائف، ورأس المال -لا شك- أنه سيفضل العامل منخفض التكلفة على العامل عالي التكلفة، وهذا من حقه، ولكن من حق البلد الذي منحه كافة التسهيلات والموارد، التي تصله أحيانًا شبه مجانية، بل والقروض الميسرة الخالية من الفوائد، أن يحمل بعض العبء، وحمل هذا العبء ليس بالمجان، بل هو أجر مقابل عمل، وسيجد عليه كذلك مكافأة من الدولة، وتسهيلات أكثر، وفوق هذا وأهم من هذا كله، أنه فحص حقيقي للوطنية، التي تختل أمام المال أحيانًا، وما زلت أتذكر تهديد بعض رؤوس الأموال لغازي القصيبي -رحمه الله- بنقل مصانعهم وتجارتهم لدولة مجاورة، بسبب السعودة، في موقف يندى له الجبين.

وتأتي كارثة تزوير الشهادات الدراسية، وشهادات الخبرة، والتي على ضوئها تمنح فرص العمل لغير السعوديين، أحد أهم ملامح الخلل في برنامج السعودة والتي يقع وزرها بالمقام الأول على عاتق وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ثم على القطاع الخاص نفسه، الذي يهرب إلى عمالة غير مؤهلة وغير أمينة، ويستمرون في العمل لسنوات، وكأن مدة التجربة لتسعين يومًا التي تكتب في مقدمة العقود، لا تعني شيئًا، ولا تفيد شيئًا.

وعلى كلٍ، وحتى نسلط الضوء على أحد مكامن الخلل في مسألة السعي وراء سعودة الأعمال، سأورد لكم هذه القصة المعبرة، فقد كنت في يوم من الأيام أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الجيران على قارعة الطريق، وإذا بصهريج ماءٍ كبيرٍ، يمر من أمامنا بسرعة عالية، غير معهودة من مثل هذه السيارات الكبيرة داخل الأحياء السكنية، وكان أول تعليق للجار أن الأجنبي لا يجرؤ على هذا الفعل، وأجزم بأن السائق سعودي، هذا الجزم هو انطباع تكون لدينا عن السعودي في موقع العمل، أنه لن يؤدي الخدمة كما ينبغي، وأنه يتعامل بفوقية، وأنه لا يمكن التنمر عليه عند الحاجة، وهناك انطباع آخر زرعه غير السعوديين في مواقع العمل، وهو أن السعودي كسول، يتأخر عن العمل، ولا ينجزه بشكل كامل، ولا يمكن أن تفرض عليه ما تريد، وأنه سريع الملل، كثير الإجازات والاستئذانات، بسبب المناسبات، والكشتات في الشتاء، وصيد الطيور في الصيف، وأستثني من ذلك بعض النبلاء من الإخوة العرب، الذين يحثون زملاءهم من السعوديين على العمل والاجتهاد، بالتنبيه المستمر بأن «البلد بلدك أنت، وليس بلدي أنا»، وعلى العموم فإن الواقع يكذب كل هذه التوهمات، مع الإقرار بحصول بعض الحالات التي تشذ عن القاعدة، فغالب التجارب تقول: إن السعودي في مواقع العمل: الأكثر احترامًا، والأكثر فهمًا لحاجتك، والأكثر إنجازًا، والأكثر احترافًا للعمل، والأسرع تعلمًا، وإن اقترن ذلك بشهادة تخصصية فلن يقف الأمر به إلا قائدًا مميزًا في ذلك العمل، وأضرب على كلامي بعض الأمثلة السريعة:

الأول: قصدت فرعًا من فروع الأحوال المدنية في بريدة، بغية تجديد بطاقة الهوية الوطنية، وقفت أمام الاستقبال لمدة دقيقة واحدة، كانت عبارة عن أسئلة سريعة، مركزة، ثم دقيقة أخرى أو دقيقتان لتعبئة نموذج معين، ثم انتظار لم يتجاوز الدقيقة، ثم الانتقال إلى التقاط الصورة «الأشهر والأكثر حظًا بالتندر»، ثم استلمت بطاقتي قبل الخروج، وكنت قبل دخولي المقر أحسب الوقت لأرى بعيني مصداقية الدعايات، التي تتحدث عن سرعة الإنجاز، وكان الواقع مطابقًا تمامًا للدعاية، فلم يتجاوز مكوثي من الدخول وحتى الخروج أكثر من ربع ساعة فقط، اللافت أن جميع موظفي الفرع لا يتجاوزون الثلاثين من أعمارهم حسب تقديري، على الأقل من قابلتهم، بمعنى أنهم شباب لم يبلغوا خبرات العشر بل ولا الخمس سنوات حتى، ومع ذلك قاموا بالعمل كأروع ما يكون الأداء.

الثاني: في قطاع خاص معني بالسعودة، ولو على مستوى المكاتب الأمامية، سعوديون، يستقبلونك من حارس الأمن وحتى مدير الفرع، والكل يخدمك بإحساس عال من الوطنية، وفوق هذا يقدم لك النصح، كما لو كان هو المستفيد من الخدمة لا أنت، ويذلل لك كافة العقبات، ويسهل عليك الأمر، حتى يخلق عندك ولاء لقطاعه وأنت لا تشعر.

الثالث: حينما تعطلت لي شحنة كتب قادمة من الخارج، واضطررت إلى مراجعة الجمارك في مطار الملك خالد الدولي، والتي وصلتها متأخرًا عن موعد دوام من يجب أن أقابله من الموظفين المختصين، فتلقفني الشباب السعوديون العاملون في الجمارك السعودية، للتسابق على خدمتي، وتجاوزوا مسألة أنني أتيت بعد انتهاء عمل الموظف المختص، وكانت الاتصالات تجري من هنا وهناك وبجوالاتهم، ولا أسمع منهم إلا استرح ونحن نقوم بالباقي، وهذا ليس من عملهم، وكان أبسط ما يمكن أن يقوله أحدهم: راجع الموظف المختص يوم الأحد، فهو في عطلة نهاية الأسبوع، ولكن الحال انقلب إلى «استرح» ونحن نقوم بالأمر كاملًا، حتى انقضت الحاجة على ما أحب.

أخيرًا، على القطاع الخاص أن يقوم بمهمته الوطنية الدقيقة على أكمل وجه، وكما ينبغي، وأن يتيح الفرصة للسعودي، ويحميه من أي منافسة محتملة مهما كانت.