يقول الشاعر أبو القاسم الشابي في قصيدته صلوات في هيكل الحب:

«عذبة أنتِ كالطفولة، كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد

كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد

يا لها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود

يا لها من طهارة تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد

يا لها من رقة يكاد يرف الورد منها في الصخرة الجلمود

أنتِ.. ما أنتِ؟ أنتِ رسم جميل عبقري من فن هذا الوجود

فيك ما فيه من غموض وعمق وجمال مقدس معبود».

يصف الشاعر في هذه القصيدة الرائعة حالة الذهول التي اعترته وهو يقف أمام الجمال الأنثوي العجائبي الساحر لمعشوقته ذات الجمال الذي جعله حائرا، وهو يعدد خصائصه الفريدة، فهو لا يعرف هل كانت مخلوقا سماويا أم أرضيا؟

هذه الخصائص الأنثوية للمرأة تلخصها قصيدة الشابي حول مجموعة من الفضائل مثل: (العذوبة الحياء الرقة الوداعة النعومة)، وهذه الفضائل اتفقت عليها غالب الثقافات حول العالم، فأصبحت من خصائص الأنوثة التي نلمسها في نتاج الشعوب الأدبي والفني، من خلال القصائد والحكايات والأغاني، حتى أنها تكاد تكون معيارا للأنوثة في كثير من الثقافات.

ومن منظور الفكر النسوي، فإن جدلية البيولوجيا والثقافة ستكون حاضرة على الدوام، وسوف يظهر السؤال النسوي المعتاد، هل هذه الفضائل التي صورها الشابي للأنوثة في قصيدته تمثل عناصر بيولوجية بحتة أم أنها سلسلة من الخصائص صنعتها الثقافة والتقاليد؟ هل هي أنماط للجنس والسلوك فرضتها مبادئ ثقافية واجتماعية أم هي حتمية طبيعية تمثل المقابل الجنسي للذكورة؟ هل هذه المقاييس المختارة للأنوثة طبيعية أم هي مقاييس مفروضة من الخطاب الذكوري المهيمن على اللغة؟

إن التحيز الجنسي من المنظور النسوي ليس تحيزا سطحيا طارئا على الممارسات الاجتماعية، بل هو تحيز كامن في أعماق اللغة والرمز والثقافة، حتى أن بعض الباحثات النسويات رأى أن العلوم الطبيعية نفسها مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات قامت على مبدأ ذكوري ومن ثم دعت إلى أنثوية العلم، فاضطهاد المرأة موجود من وجهة النظر النسوية في الأسس العميقة للغة وليس في التنظيم العملي والإداري البسيط للأنشطة الاقتصادية. إذن يبدو أن النقد النسوي يطرح أسئلة غير بريئة سوف تصطدم -عاجلا أم آجلا- بالطبيعة والحتمية البيولوجية وتجعلها في تضاد دائم معها من خلال افتراض أن ما نعتقده من مواصفات طبيعية للأنوثة ليس إلا تقاليد وعادات من فعل الثقافة والمجتمع. لا تقف أسئلة النقد النسوي للثقافة والمجتمع عند مستوى التنظيم الإداري البسيط للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، فهو يتوسع في توجيه الاتهامات حتى يتهم مؤسسة الأسرة نفسها التي تتكون من أب وأم وأبناء وأحفاد، بأنها مؤسسة صنعتها التقاليد والعادات والثقافة الذكورية، وتصب في مصلحة الهيمنة الذكورية وتؤدي لاضطهاد المرأة، ودعت لتفكيك نظام الأسرة بصفته نظام أبوي تسبب في ظلم المرأة واستغلالها عبر العصور. بل إن الأديان نفسها متهمة بأنها راضخة للنظام الرمزي الذكوري للغة، فكثير من المعتقدات الدينية ليست إلا تأويلات ذكورية ولا ننسى أن عقيدة التوحيد، وهي عقيدة سماوية راسخة تمثل جوهر الدين الإسلامي وليس لها علاقة بالثقافات، ينظر لها في الفكر النسوي الغربي على أنها عقيدة ذكورية تؤكد على المركزية الذكورية وترسخها.

كثير من النظريات النسوية تأثرت بالسياقات الغربية وبشكل خاص وضع المرأة في المجتمع الغربي في خضم التحولات الاقتصادية التي عاشتها أوروبا، بداية من القرن الثامن عشر، الذي شهد بداية عصر جديد بشر بنشوء النظام الرأسمالي الصناعي. فقد كانت القوة العاملة مشدودة إلى الأرض وتعيش بين سياجاتها وتدفن داخلها ضمن نمط اقتصادي إقطاعي قديم يعترض حراك القوة البشرية وانتقالها من الحقل (القرية) إلى المصنع (المدينة)، وهذا يتطلب تحرير القوة العاملة ومن ضمنها المرأة للانتقال لنمط الاقتصاد الجديد الذي يتطلب انتقالا من وعي إلى وعي جديد، وإرساء قيم جديدة تقدم على أنها كونية لكي تبسط سلطانها بشكل أوسع وأشمل. النقلة النوعية التي عاشتها المجتمعات البشرية في هجرتها من الأرياف إلى المدن كانت أشبه بالعملية القيصرية ليس على مستوى وسائل الإنتاج بل على مستوى القيم والأفكار، سيطر على الإنسان هاجس إزالة الأوهام والتشكيك في كل ثوابت ومطلقات، فكل ما رسخ حول المرأة كان محل تشكيك في الفلسفة النسوية، حتى العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة أصبحت محل اتهام، وكل ما اعتقدنا بأنه مطلق ومقدس مصدره السماء أصبح مجرد وجهات نظر للإنسان واختيارات ذاتية مصدرها انحرافات الثقافة والعادات والتقاليد.

وفي مقالته بعنوان (تقلب القيم؟ الأخلاق وحدة لا تتجزأ) يقول المفكر الفرنسي جان جوزف غو: «إن القيم الاقتصادية ليست من نمط القيم الجمالية والأخلاقية أو الروحية ذاته، ولكن كلمة قيمة اكتسبت معناها الدقيق أولا في إطار النشاط الاقتصادي، ومن المؤكد أن التوجه الذي يسعى لتحويل القيمة إلى أمر ذاتي ومتغير، أي ما ليس بمطلق وثابت، انطلق من عالم الاقتصاد والمال».