بات مصطلح الشعوبية متداولاً بشكل كبير في الآونة الأخيرة بالمحافل الدولية والنظريات الاجتماعية والسياسية ومراكز التفكير ووسائل الإعلام، فعلى الرغم من ضبابية هذا المفهوم من حيث الممارسة إلا أنه حاضر وبشكل كبير في القضايا السياسية الساخنة الحديثة، وبالذات ممارسة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته ترمب في خطابه الشعبوي الأخير، وما نتج عن هذا الخطاب من أعمال عنف وشغب، فهذه تعتبر سابقة سياسية في تاريخ الولايات المتحدة، البلد الذي يؤمن بالديمقراطية وبالانتخابات ودولة المؤسسات.

وحيث إن تداعيات خطابه التحريضي الشعبوي - كما وصفه الديمقراطيون - ما زال مستمرا بشكل دراماتيكي، فما نتج عنه بداية من دخول مناصريه الكونجرس والقيام بأعمال شغب وتخريب، جعلنا نتوقف قليلا أمام هذا الظاهرة الحديثة بطرحها وممارستها، القديمة بتشكيلها، ليس من أجل تحليل مضمون الخطاب، وإنما لفهم هذه الظاهرة التي أدت لصناعة مثل هذا الاتجاه في الحديث السياسي وحشد الجماهير وتوجيه سلوكها، من خلال قراءة وفرضيات، والخروج بدروس تمارس في الخطاب الجماهيري، فمختبر التجارب الدولية كفيل بأن يوفر علينا كثيرا من الوقت والجهد لفهم تداعيات الأزمات السياسية، والتعامل مع جماهيرها على جميع الأصعدة، وبما أن لهذه الظاهرة الشعبوية أسلوب مارسه الرئيس الأمريكي، كان لا بد لنا أن نفهم تأثيره في الجمهور، كما بينها فيليب روجيه مدير مجلة «كريتيك»، أن هذه «الكلمة في كل مكان، لكن من دون تعريف لها». أما أوليفييه ايهل المختص الفرنسي في الأفكار السياسية والمدير السابق لمعهد العلوم السياسية في غرونوبل وهو مؤلف «المحاولة الشعبوية في قلب أوروبا» عام 2003، بين أن المعضلة تكمن في أن الشعبوية ليست مفهوما، وأنها تستخدم واقعا في إطار التنديد لا التوضيح، أي بما هي تهمة يطلقها السياسيون على خصومهم، ولكن تجدهم يتوجهون للرأي العام في محاولة إسماعهم ما يريدونه، وهذا الأمر كان جليا عندما طلب الرئيس الأمريكي من أنصاره القدوم إلى واشنطن العاصمة، وتحدي الكونغرس ونائب الرئيس مايك بنس لإجبارهم على تجاهل نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر، وإبقاء الرئاسة في يديه، وأوضح للجماهير أن أصواتهم قد سرقت، وأن إرادتهم قد خطفت. وترمب ليس الوحيد الذي مارس الخطاب الشعبوي لتعبئة الجماهير، بل أيضا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ورئيسَ فنزويلا السابق هوجو شافيز عندما حرك الجماهير بشكل عنيف في شوارع فنزويلا. وقد اكتسب هذا المفهوم ممارسات جديدة منتصف القرن العشرين في أمريكا اللاتينية مع الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون والبرازيلي جيتوليو فارجاس، اللذين جسدا حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية. هذه التحركات والسلوكيات الجماهيرية أوضحها المفكر الفرنسي جوستوف لوبون في كتاب «سيكولوجية الجماهير»، وأن مطالب الجماهير قد أصبحت واضحة أكثر فأكثر، وتميل إلى تدمير المجتمع الحالي وقلب عاليه سافله، وهذا ما وجدناه في أعمال الشغب في العاصمة الأمريكية وفي الكونجرس نفسه، فالجماهير غير ميالة كثيرا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جداً للانخراط في الممارسة. هي لم تعد تريد قوانين تردعها عن خروجها عن القانون إذا ما كان محركها شخصية يتحدث بما يجول في نفوسهم، فالأنهار لا تعود أبدا إلى منابعها.

على الرغم أننا ما زلنا في دراسة هذا الخطاب الشعبوي بامتياز للخلوص إلى قوانين شعبوية تحرك المجتمعات والجمهور، حتى وإن كانت مجتمعات حضارية ومدنية، إلا أننا نستنتج مما حصل، أولاً: أن الشعبوية دائما ما ترتبط بالقيادات التي تخاطب الجماهير من مواقع قوية. ثانيا: الجماهير عندما تشعر أنها ضحية، وأن هناك شخصا يريد أن يحررها من هذا الأمر، تنساق إليه حتى وإن كلفها الأمر خسائر فادحة. فالشعبوية قد تكون مدمرة للمجتمعات ومعطلة لحركات التنمية إذا ما تميزت بسوء استخدامها.