«الوزير ما يفهم» «المدرب ضعيف شخصية» «المذيع مرتبك» «الموظف سيئ» «الخدمة تأخرت» «المدير ضاغطنا» «اللي يشتغل ما يبتسم» «الطبيب مواعيده سيئة»، «اللاعب ما عنده رغبة يلعب»، «الموارد البشرية مستقعدين لنا». هذه عبارات لا يكاد يمر يوم دون سماعها سواء في شبكات التواصل الاجتماعي أو في محيطك. ولكن ماذا لو بدلنا تلك العبارات باستفهامات وقلنا هل تعلم أبعاد قرار الوزير؟ وما هي معطيات المدرب قبل وضع خطته؟ وما هي الظروف الطارئة التي سبقت ظهور المذيع؟ أو حجم الضغوطات التي تحيط بالموظف؟ ولماذا اضطر المدير إلى ضغط العمل؟ وما هي المآسي التي جعلت ذلك الموظف غير بشوش؟ وما هي معاناة المريض الذي سبق موعدك مما جعل الطبيب لا يلتزم بموعده معك؟ وما هي الإصابات التي تحمَّلها اللاعب من أجل المشاركة؟ أو ما هي اللائحة التي دفعت بقسم الموارد البشرية لتحديد عدد أيام الإجازات أو الدوام أو تفاصيل التوظيف؟

في مشروع هارفارد للتفاوض الذي أقيم عام 1983 بالشراكة مع معهد إم أي تي، ونتج عنه كتاب بعنوان «الوصول إلى الموافقة»، كانت أبرز نقطة تأسس بها هذا المشروع والكتاب هي أن تضع نفسك دائما، وقبل أي تفاوض، محل الآخرين وتتخيل موقفهم وتحاول أن تتفهم لماذا قبلوا أو رفضوا الفكرة، وهل لو كنت مكانهم ستقبل أم ترفض؟. هذا المبدأ عندما نعتاد عليه ستتسع دائرة المنطق لدينا وستقنن أكثر دائرة العاطفة.

الإيمان بحق الجميع للانتقاد فكرة قد تكون بديهية، وعدم مصادرة الآراء في ظل الشفافية العالية وأنماط العمل الجديدة التي تتوفر فيها الحكومة، وضرورة الالتصاق أكثر بالجمهور والتعرف على انطباعاتهم، غير أن كافة تلك المقومات المهيئة لإبداء الرأي يجب ألا تجعلنا نغفل ما هي المتغيرات التي ساهمت في ظهور الموضوع أو الشخص المنتقد بهذه الصورة. بل يذهب إلى أن يتفهم صاحب الرأي أن المعطيات ليست كاملة أمامه، فكثير من الأمور قد يجهلها ولا يعرف كواليسها، ولن تظهر له، فبالتالي فإن رأيه تم بناء على أفق ضيق وزاوية شخصية خاصة في مصالحة دون النظر لشمولية الحدث كاملة.

وامتداد لذات النسق نجد أن كثيرا من المعطيات قد تغيب عن صاحب الرأي فقد يجد المنتقد ذاته في قلب الحدث الذي كان ينتقده بالتالي فإن أساليب المعالجة للموضوع تختلف جذريا عما كان عليه في السابق، حينما كان متحررا من الأبعاد والمعايير الأخرى كافة. ولنا في أحد أحاديث وزير التعليم السابق الدكتور أحمد العيسى نموذجا في ذلك، حين ذكر أن بعض آرائه حيال التعليم وسبل تطويره ورواتب المعلمين التي قد طرحها نظريا في كتاباته ولقاءاته اختلفت جذريا حين تسلم الحقيبة الوزارية، وأدرك بعض المعطيات التي كانت غائبة عنه حين كان خارج المشهد، حيث قال «طرح وجهة نظر من خارج المسؤولية تختلف عن طرحها عندما تكون المسؤولية على عاتقك».

قد تكون فكرة الوزراء أو المسؤولين والمشاهير والمدربين وغيرهم واردة وطبيعية لوجودهم في بيئة أعمال وتنافس ومنابر ساطعة الضوء، يواجهون من خلالها انتقادات واسعة. لكن بإمكاننا كذلك أن نطبق هذا المبدأ في العالم الموازي. لنضع أنفسنا دائما مكان الأقليات والمستضعفين، لنستشعر حالهم حتى لو بالخيال، لتزيد معايير إنسانيتنا وتفهمنا لتصرفاتهم وطرق تجاوبهم تجاه الأحداث المختلفة، بل حتى لنتفهم طموحهم. وتأكد دائما برغبة من يعمل بالنجاح ولا أحد يرغب بالفشل والتقصير، وأن الانتقادات الواردة له كثير منها هي في ذهنه ويريد معالجتها ولكن وفق المساحة والظرف المتاحين له. الممثل السينمائي الفرنسي رينيه يقول: أفضل طريقه لتقدير الآخرين أن تضع نفسك مكانهم قبل الحكم عليهم.