السرقة مرفوضة في كل القوانين والأخلاق والثقافات والأزمنة ولا يمكن القبول بها مطلقا ومهما تلبّست أو تموهت، فستبقى في أبسط نتائجها أنها تصادر الحقوق من أصحابها إلى من لا يستحق عبر الخداع والتمويه والتزييف، ولهذا شدّدت جميع الدول والحضارات على إيقاع العقوبات المختلفة الرادعة بمن يمارس هذا الفعل حماية للمجتمعات والشعوب، حيث تقع السرقة ضمن ما اتفقت البشرية على رفضه ومقاومته، وسُنت القوانين للحد منها وتجريمها، بل والاشمئزاز منها، خاصة عندما تحدث السرقة ممن يُنتظر منه العون والدعم، أو حينما يسلب القوي القادر المستغني الضعيف المحتاج المضطر، أو عندما يسرق أحدهم ليزداد غنىً ويزداد غيره فقراً وحاجة، أو يسرق ليعلو ويسقط غيره.

وعلى الرغم من الرفض الكامل للسرقة والسطو على حقوق الآخرين من جميع الناس وفي كل الثقافات إلا أن هناك من السرقات ما لا يمكن ملاحقته من الهيئات والمؤسسات القانونية، لأنها تستخدم مواد القانون وتسير إلى جانبه متماهية معها وممتطية نصوصها، ومستمدة شرعية الممارسة من فقراتها المصوغة بفجوات ينفذ من خلالها هؤلاء اللصوص، الذين يبدون في أجمل الهيئات ويطلقون الكثير من الشعارات الماكرة، التي تمكنهم من الاختباء خلفها وخديعة الجماهير المستلبة بمثل تلك الشعارات عن الأخلاق والقيم وحقوق الإنسان.

إنّ ما يحصل من الكثيرين دولاً وأفرادا من الذين استمرأوا السرقة بمختلف صور السلب عجيب حد الغرابة، بالنظر للبواعث الأخلاقية التي يروجها الكثير من هؤلاء اللصوص، ومع ذلك فلن نستغرب أن نجد دولة غنية قوية تمارس النهب المنظم، وعلى عين العالم لمقدرات وثروات دول تقع تحت خطوط الفقر، وما عليك سوى النظر لضفتي البحر المتوسط وسوف تعرف قارات بأكملها تحمل عناوين الضحية والجلاد خلال قرون طويلة من النهب الذي لم يتوقف..

وإذا ما وسعنا دائرة النظر قليلا أو كثيرا فسنجد دولاً عظمى تستثمر في سرقة التنمية من بعض البلدان الأشد فقرا، وذلك بوضع الخطط المنظمة وطويلة الأمد لتهجير أفضل العقول منها بدلاً من دعم أولئك الموهوبين وتركهم للإسهام في تنمية بلدانهم، أو تجد البعض من تلك الدول يمارس احتكار صادرات تلك الشعوب بأبخس الأسعار، تحت ضغط فائدة الديون طويلة الأمد بين الدول الغنية الدائنة والدول الفقيرة المديونة التي أُرهِقت طويلا بكل ذلك الاستنزاف المبرمج والمؤذي، ولا يقف الأمر هنا بل تمادت بعض الدول في سن القوانين ذهابا وإيابا من طرف واحد حول حرية التجارة أو تقنينها، وحرب الأسعار والإطاحة بالبورصات لكسر إرادة الشعوب، في ظل منطق القوة وفرد العضلات..

فإذا ما التفتنا للأفراد فالأمثلة كثيرة وتزداد بازدياد أعداد البشر، بما لا يدع مجالا للاستغراب حتى في أبعد المجالات تصورا عن ممارسة السرقة ونهب الجهود، ففي رحاب مؤسسات الفكر والثقافة التي تتغنى بالمبادئ لن نستغرب وجود كاتب يسطو على أفكار زميله ويحولها لمنتج يدر عليه الأرباح، في حين يعاني صاحبها أو ورثته -إن كان قد رحل- شظف العيش بسبب فارق التسويق بين الطرفين، وتلك الهالة التي تغلف اللص المستنير فتعطيه مساحة للمناورة يتقبلها الجمهور الذي تعود عليه وجهاً مألوفا ومحاضرا عن القيم والأمانة، وليس بعيداً عنه ذلك الشاعر الذي يشتري القصائد من شاعر صاعد موهوب، وهو يظن أنه يسدي لذلك المسكين إحسانا بقليل المال الذي يعطيه، في حين أنه يضاعف المأساة عليه حينما يزيد في حجب اسمه عن المتلقين بتلك الدراهم المعدودة، التي بالكاد تكفيه لتوفير ضروريات الحياة التي لم تعد سهلة التدبير بالنسبة له، وإذا اتجهنا للأبحاث العلمية وقاعات الدرس والمحاضرات، تلك القاعات التي تشكل اتجاهات مرتاديها نحو الأخلاق، سنجد السرقات على مستوى مدهش وباعث الدهشة، وأن من يمارس ذلك الفعل هو الأكثر تنديدا به في العام وممارسة له في الخاص، من خلال استغلال جهود طلابه ومرؤوسيه في الجوانب العلمية ونسبتها كليا أو جزئيا له دون اعتراض من مرؤوسيه وطلابه المغلوبين على أمرهم والمضطرين للسكوت عنه، وعبور سنوات الدرس معه بسلام..

ومثلهم ذلك المتنفذ الذي يشتري عقارا بالفتات من المال في حين أنه يساوي الملايين بفرق المعلومة الحاضرة لديه والغائبة عن صاحب العقار الحقيقي، الذي لا يعرف أن ما يملكه من عقار يقع ضمن خطة لتعمير المكان من قبل الدولة وتعويض أصحابه..

إن صور السرقة التي لا يلاحظها القانون ولا يتم تجريمها في مؤسسات مكافحة الفساد في العالم؛ سواء تلك التي تأخذ طابعا اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا أو في أي مجال من المجالات حتى المتعلق منها بالأعمال الخيرية، تؤدي إلى نتائج مرهقة للمجتمع الإنساني دولا وأفرادا، وتستنزف الجهود التنموية والإنسانية بما يكرّس الفوارق الطبقية ويزيد من مساحات الشعور بالغبن والإيذاء، الأمر الذي يزيد من دوائر الشقاء الإنساني، ويقلل من فرص المجتمعات والشعوب في العيش الكريم والفرص المتكافئة، كغاية أساسية وهدف مستدام في كل مواثيق وخطط الهيئات والمؤسسات الدولية التي أنشأتها دول العالم، لإعادة رسم العلاقات بين البشر في ظل مبادئ الحرية والعدالة والمساواة.